وهذه الوصية العاشرة هى الجامعة لكل أنواع الفضائل التكليفية إنّها قوله الحق :

 

وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153)

 

 

أى أنه ختم الوصايا التسع بهذا القول ، لأن الصراط  المستقيم يشمل الوصايا التسع السابقة ويشمل كلما يذكر هنا . وقلت : أننا نلاحظ أن الخمس الأول ذيلها الحق بقوله : {لعلكم تعقلون} ، والأربع التى بعدها ذيلها الحق بقوله : {لعلكم تذكرون} والواحدة الجامعة لكل شئ قال تذييلاً لها : {لعلكم تتقون} .

 

فما الفرق بين التعقل والتذكر والتقوى ؟

 

إن الأشياء الخمسة الأولى التى قال الحق فيها :

 

                 {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151)}        (سورة الأنعام)

 

هذه الأشياء كانت موجدة فى بيئة نزول القرآن ، إنهم كانوا يشركون بالله ويعقون والديهم ويفتلون الأولاد ويقارفون الفواحش ويقتلون النفس التى حرم الله قتلها إلا بالحق ، فأوضح لهم : تَعَقَّلْوها ،فإذا ما تعقلتموها تجدون أن تكليف الله يمنعكم من هذه الأفعال ، إنّه أمر يقتضيه العقل السليم الذى يبحث فى الأشياء بمقدمات سليمة وتنائج سليمة ، لكن "الأربع" الأخرى ، هم كانوا يفعلونها ويتفاخرون بها . ففى التى كانوا يعملونها من القيام على أمر مال اليتيم والوفاء بالكيل والميزان والعدل فى القول والوفاء بالعهد قال : {لعلكم تذكرون} أى أياكم أن تغفلوها ، فإذا كنتم تفعلونها وأنتم على جاهلية فافعلوها من باب أولى وأنتم على إسلامية .

ثم جاء بالوصية الجامعة :

       {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153)}  (سورة الأنعام)

ونظراً لأن هذه الوصية تستوعب كل الأحكام إيجاباً وسلباً ، نهياً وأمراً ، فوضح لهم أنه يجب عليكم أن تتبعوا الصراط المستقيم : لتقوا أنفسكم آثار صفات القهر من الحق سبحانه وتعالى ، وأول حنودها النار .

 

والصراط : هو الطريق المعبّد ، ويأخذون منه صراط الآخرة ، وهو - كما يقال- "أدق من الشعرة ،وأحد من السيف" ، ما معنى هذا الكلام؟ . معناه أن يُمشى عليه بيقظة تامة وأعتدال ، لأنه لو راح يمنة يهوى فى النار ، ولو راح يسرة يسقط فيها ، فهو صراط معمول بدقة وليس طريقاً واسعاً ، بل - كما قلنا- "أدق من الشعرة وأحد من السيف" فلتمش على صراط الله ومنهجه معتدلاً ، فلا تنحرف يمنة أو يسرة ، لأن الميل – كما قلنا – يبعدك عن الغاية ، إنك إذا بدأت من مكان ثم اختل توازنك فيه قدر ملليمتر فكلما سرت يتسع الخلل ، وأى انحراف قليل فى نقطة البداية يؤدى إلى زيادة الهوة والمسافة .

 

كذلك الدين ، كلما نلتقى فيه ويقرب بعضنا من بعض ، نسير فى الطريق المستقيم ، وكلما ابتعدنا عن التشريع تتفرق بنا السبل . 

      {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153)}  (سورة الأنعام)

 

ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، جلَّى بالحركة الفعلية منطوق النسبة الكلامية ، حينما جلس بين الصحابة وخطّ خطّا . وقال : هذا سبيل الله .

ثم خط خطوطاً عن يمينه وخطوطاً عن يساره ، ثم قال : هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليها ، ثم قرأ هذه الآية : { وأن هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} .

لذلك فكل أهل الحق ، وأهل الخير كلما اقتربوا من المركز كان الالتقاء ، وهذا الالتقاء يظل يقرب ويقرب ويقرب إلى أن يتلاشى ويصير الكل إلى نقطة واحدة .

 

وانظر إلى جلال الحق حينما يجعل الصراط المستقيم إليه فى دينه ، منسوباً إلى رسوله : {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} فالرسول يسير على هذا الصراط وهو لا يغش نفسه ، والذى يفعله ويمشى فيه يأمركم بأن تمشوا فيه ، وهو لم يأمركم أمراً وهو ينجوه وبعد عنه ، ولو غشكم جميعاً لا يغش نفسه وهذا هو صراطه الذى يسير فيه .

 

والسبيل هنا معروف أنّه إلى الله فكأن سبيل الله هو طريق محمد صلى الله عليه وسلم ونسب الفعل والحدث لله وحده ، ففى البداية قال : {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} ، ثم قال : "سبيله" فالصراط لم يعمله محمد لنفسه ، ولكن أراد الله للمؤمنين جميعاً ، ورسول الله هو الذى يأخذ بأيديهم إليه .

 

وحين ننظر إلى كل الخلافات التى تأتى بين الديانات بعضها مع بعض ، بين اليهودية والنصرانية على سبيل المثال :

 

       {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ...(113)}                                             (سورة البقرة)

 

والمشركون قالوا : لا هؤلاء على شئ ، ولا هؤلاء على شئ :

{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ...(113)}      (سورة البقرة)

 

أى أننا أمام ثلاثة أقوال : اليهود قالوا : ليست النصارى على شئ ، والنصارى قالوا : ليست اليهود على شئ ، وقال الذين لا يعلمون - وهم أهل مكة – مثل قولهم ، ثم نجد الدين الواحد منهما ينقسم إلى طوائف متعددة ، وكل طائفة لها شئ تتعصب له . وترى أن الذى تقول به هو الحق ، والذى يقول به غيرها هو الباطل ، وكيف ينشأ هذا مع أن المصدر واحد ، والتنزيلات الإلهية على الرسل واحدة؟! إن آفة كل هذا تنشأ من شهوة السلطة الزمنية ، وكل إنسان يريد أن يكون له مكانة ونفوذ وخلافة . وهذا يريد أن يتزعم فريقاً ، وذاك يريد أن يتزعم فريقاً ، ولو أنهم جُمعوا على الطريق الواحد لما كانوا فرقاء .

 

ونجد صلى الله عليه وسلم يقول : "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقت أمتى على ثلاث وسبعين فرقة"  

رواه أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجة عن أبى هريرة

 

وفى رواية "كلها فى النار إلا واحدة وهى الجماعة" ، والجماعة : هم أهل السنة والجماعة ، وفى رواية "ما أنا عليه وأصحابى"

 

ونلاحظ دقة هذا القول فى عدد المذاهب والفرق ، وإن كنتم لا تسمعون عن بعضها لأنها ماتت بموت الذين كانوا يتعصبون لها ، والذين كانوا يريدون أن يعيشوا فى جلالها .

 

إذن الآفة تأتى خير ننظر حين حكم من الأحكام ، يرى فيه واحداًَ رأيا ، ويأتى الآخر فيرى فيه رأيا آخر ، لا لشئ إلا للأختلاف . ونقول لهم :انتبهوا إلى الفرق بين حكم مُحْكَم ، وحكم تركه الله مناطاً للاجتهاد فيه ، فالحكم الذى أراده الله محكماً جاء فيه بنص لا يحتمل الخلاف ، وهذا النص يحسم كل خلاف . والحكم الذى يحبه الله من المكلَّفين تخفيفاً عنهم على وجه من الوجوه يأتى بالنص فيه محتملاً للاجتهاد ، ومجئ النص من المشرع فى حكم محتمل للاجتهاد هو إذن بالإجتهاد فيه ، لأنه لو أراد حكماً لانختلف فيه لجاء به محكماً .

 

والمثال المستمر ما تركه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سنته الشريفة ، فحينما أراد الحق سبحانه وتعالى ألا يضيع السلاح قبل أن يؤدب بنى قريظة ، وهم من شايعوا مشركى مكة فى الحرب . فقال صلى الله عليه وسلم : "لا يُصَلَّيَنَّ أحد العصر إلا فى بنى قريظة"    

رواه البخارى فى المغازى ، والبهيقى فى الدلائل والسنن.

 

فذهب الصحابة فى طريقهم إلى بنى قريظة ، وآذنت الشمس بالمغيب وهم فى الطريق فانقسم صحابة رسول الله إلى قسمين : قسم قال : نصلى العصر قبل أن تغيب الشمس ، وقال القسم آخر : قال رسو الله لا نصلى العصر إلا فى بنى قريظة . فصلى قوم العصر قبل مغيب الشمس ، ولم يصل الآخرون حتى وصلوا إلى بنى قريظة ، ورفعوا أمرهم إلى المشرع وهو رسول الله ، فأقرّ هذا ، وأقرّ هذا ، لأن النص محتمل .

لماذا؟ . لأن كل حدث من الأحداث يتطلب ظرفاً له زمان ومكان ، فالذين قالوا أن الشمس كادت تغرب ولابد أن نصلى العصر قبل مغيبها نظروا إلى الزمان . والذين قالوا لا نصلى إلا فى بنى قريظة نظروا إى المكان . وحينما رُفِعَ الأمر إلى المشرع الأعلم أفرّ هؤلاء وأقرّ هؤلاء .

 

إذن فالحكم إذا كان فيه نصاً محكم فلا إحتمال للخلاف فيه ، وإن كان اللهقد تركه موضعاً للإجتهاد فيه فهو يأتى لنا بالنص غير المحكم . ومَن ذهب إليه لا يصح أن نخطّئه ، ولذلك بقى لنا من أدب الأئمة الذين بقيت مذاهبهم إلى الآن بعضهم مع بعض  . نجد الواحد منهم يقول :

الذى ذهب إليه صواب يحتمل الخطأ ، والذى ذهب إليه مقابلى خطأ يحتمل الصواب ، وجميل أدبهم هو الذى أبقى مذاهبهم إلى الآن ، وعدم أدب الآخرين جعل مذاهبهم تندثر وتختفى ولا تدرون بها ، والحمد لله أنكم لا تدرون بها .