وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(155)

و"هذا" إشارة وعادة ما تأتى وترد على ما تقدم ، ولكن إذا لم يكن لاسم الإشارة متقدم أو حاضرة يشار إليه فهذا دليل على أنك إن أشرت لا ينصرف إلا إليه لأنه متعين ينصرف إليه الذهن بدون تفكير لوضوحه .

وكلمة "كتاب" تدل على أنه بلغ من نفاسته أنه يجب أن يُكتَب ويسجل ، لأن الإنسان لا يسجل ولا يكتب إلا الشئ النافع ، إنما اللغو لا يسأل عنه : وقال ربنا فى القرآن : إنه "كتاب" ، ومرة قال فيه "قرآن" فهو "قرآن يتلى من الصدور ، و"كتاب" يحفظ فى السطور . ولذلك حينما جاءوا ليجمعوه أتوا بالمسطور ليطابقوه على ما فى الصدور .

{وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ...(155)}

و"أنزلناه" أى أمَرْنا بإنزاله ، ونزل به الروح الأمين ، وكلمة مبارك مأخوذة من "البركة" أى أنه يعطى من الخير والثمرة فوق ما يُظَنّ فيه ، وقد تقول : فلان راتبهمائتا جنيه ،ويربى أولاده جيداً ويشعر بالرضا ، وتجد من يقول لك : هذه هى البركة كأن الراتب لا يؤدى هذه المسؤليات أبداً . وكامة"البركة" تدل على أن يد الله ممدودة فى الأسباب ، ونعلم أن الناس ينظرون دائماً إلى رزق الإيجاب ، ولا ينظرون إلى الرزق الأوسع من الإيجاب وهو رزق السلب ، فرزق الإيجاب يأتى لك بمائتى جنيه ، ورزق السلب يسلب عنك مصاريف لا تعرف قدرها . فنجد من يبلغ مرتبه ألفاً من الجنيهات لكن بعض والده يمرض ويحتاج ولد آخر إلى دروس خصوصية فتتبدد الألف جنيه ويحتاج ما فوقها .


إذن فحين يسلب الحق المصاريف وإنفاق المال فى المعصية أو المرض فهذه هى بركة الرزق ، ونجد الرجل الذى يأتى ماله من حلال ويعرق فيه يوفقه الله إلى شراء كل ما يحتاجه إليه ، ويخلع الله المال القليل صفة القبول ، ونجد آخر يأتى ماله حرام فيخلع الله على ماله صفة الغضب فينفقه فى المصائب والبلايا ويحتاج إلى ماهو أكثر منه .

وأنت حين تقارن القرآن بالتوراة فى الحجم تجده أصغر منها ولكن لو رأيت البركة التى فيه ستجدها بركة لا تنتهى ، فكل يوم يعطى القرآن عطاءه الجديد ولا تنقضى عجائبه ، ويقرأه واحد فيفهم منه معنى ، ويقرأه آخر فيفهم منه معنى جديداً . وهذا دليل على أن قائله حكيم .وضع فى الشئ القليل الفائدة الكبيرة .

وهذه هو معنى {كتاب أنزلناه مبارك} فكل كتاب له زمن محدود وعصر محدود وأمة محدودة ، أما القرآن فهو يواجه من يوم أن أنزله الله إلى أن تقوم الساعة قضايا متجددة يضع لها حلولاً .

والمهم أن القرآن قد جاء على ميعاد مع طموح البشريات ، وحضارتها وارتقاءاتها فى العقول ، لذلك كان لابد أن يواجه كل هذه المسائل مواجهة تجعل له السبق دائماً ولا يكون ذلك إلا إذا كانت فيه البركة .

وكلنا يعلم أن القرآن قد نزل على رجل أمّى ، وفى أمة أمّية ، ولذلك حكمة بالغة لأن معنى "أمّى" أى أنه لم يأخذ علماً من البشر بل هو كما ولدته أمه ، وجاءت ثقافته وعلمه من السماء .

إذن فالأمية فيه شرف وارتقاء بمصادر العلم له . ونزل القرآنفى أمة أمية ، لأن هذا الدين وتلك التشريعات ، إنما نزلت فى هذه الأمة المتبديّة المتنقلة من مكان إلى آخر وليس لها قانون بل يتحكم بها رب القبيلة فقط ، وحين تنزل إليها هذه القيم الروحية والأحكام التشريعية ففى ذلك دليل على أن الكتاب الذى يحمل هذه القيم والأحكام قادم من السماء . فلو نزل القرآن على أمة متحضرة لقيل نقلة حضارية ، لكنه نزل على أمة لا تملك قوانين مثل التى كانت تُحكم بها الفرس أو الروم .

ومادام الكتاب له هذه الأوصاف التى تريح الخلق من عناء التشريع لأنفسهم ويضم كل الخير ، لذلك يأتى الأمر من الله :

{فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (من الآية 155 سورة الأنعام)

وساعة تأتى بـ"لعل" فاعلم أن فيها رجاء ، وقد ترجو أنت من واحد وتقول : لعل فلاناً يعطيك كذا ، والرجاء هنا من واحد ، ومَن يفعل العمل المرجو إنسان آخر، وقد يفعل الآخر هذا العمل ، وقد يغضب فلا يفعله ، لأن الإنسان ابن أغيار ، بل ومن يدرى أنه ساعة يريد أن يفعل فلا يقدر . وإذا قلت : "لعلى أفعل لك كذا" ، وهنا تكون أنت الراجى والمرجو فى آن واحد ، ولكنك أيضاً ابن للأغيار ، فأنت تتوقع قدرتك على الفعل وعند إرادتك الفعل قد لا تتيسر لك مثل هذه القدرة .