هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)

 

 

فهل ينتظرون من عطاءات الوجود المحيط بهم إلا أن تأتيهم الملائكة التى تقبض الروح؟ والملائكة تأتى هنا مجملة . وفى آيات أخرى يقول:

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ ..(28)} (سورة النحل)

ولن يتأبى أحد على الملائكة ، لذلك يلقون لهم السلم وتنتهى المسألة.

ويتابع سبحانه:

{أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)} (سورة الأنعام)

ووقف العلماء عند هذا القول الكريم لأنهم أرادوا أن يفسروا الإتيان من الرب على ضوء الأتيان منا ، والأتيان منا يقتضى انخلاعاً من مكان كان الإنسان فيه إلى مكان يكون فيه ، وهذا الأمر لا يصلح مع الله . ونقول : أفسرت كل مجئ على ضوء المجئ بالنسبة لك ؟ بالله قل لى ما رأيك فى قوله تعالى :

{وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ(19)} (من الآية 19 سورة ق)

كيف جاءت سكرة الموت وهى المخلوقة لله ؟ أننا نعرف كيف يجئ الموت وهو مخلوق ؟ فكيف تريدون أن نعرف كيف يجئ الله؟ عليكم أن تفسروا كل شئ بالنسبة لله بما يليق بذات الله فى إيطار "ليس كمثله شئ" ولنتأدب ونعطى العقول مقدارها من الفهم ، ولنجعل كل شئ منسوباً لله بما يناسب ذات الله ،لأن المجئ يختلف بأقدار الجائين ، فمجئ الطفل غير مجئ الشاب ، غير مجئ الرجل العجوز ، غير مجئ الفارس فما بالنا بمجئ الله سبحانه ؟!! إياك- إذن- أن تفهم المجئ على ضوء مجئ البشر . وأكررها دائماً : عليك أن تأخذ كل شئ بالنسبة له سبحانه لا بقانونك أنت ، ولكن بقانون الذات الأعلى ، واجعل كل ما يخصه فى إطار "ليس كمثله شئ"

ولذلك قل : له سمع ليس كسمعنا ، وبصر ليس كبصرنا ، ويد ليست كأيدينا ، فى إطار "ليس كمثله شئ" . وإيكم أن تسمعوا مناقشة فى قوله : "يأتى ربك" وقل إن إتيان الله ومجيئه ليس كفعل البشر ، بل سبحانه "ليس كمثله شئ" { أو يأتى ربك أو يأتى بعض آيات ربك يوم يأتى بعض آيات ربك}

و"بعض آيات ربك" هى العلامات ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :

"بَادِرُوا بالأعمال سِتاً : طلوع الشمس من مغربها ، والدُّخَان ، ودابَّةَ الأرض ، والدَّجّال وخُوَيْصَةَ أحدِكم وأمر لعامّة" رواه أحمد ومسلم عن أبى هريرة .

و"خويصة أحدكم" تصغير : خاصة ، والمراد حادثة الموت التى تخص الإنسان ، وصغّرت لاستصغارها فى جنب سائر العظائم من بعث وحساب وغيرهما وقيل : هى ما يخص الإنسان من الشواغل المقلقة من نفسه وماله وما يهتم به.

و"أمر العامّة" : أى القيامة ، لأنها تعم الخلائق ، أو الفتنة التى تعمى وتصم ، أو الأمر الذى يستبد به العوام ويكون من قبلهم دون الخواص.

{ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ ..(158)} (سورة الأنعام)

لأن الإيمان لا يكون إلا بأمر غيبى ، فكل أمر مشهدى مدرك بالحواس لا يسمى إيماناً ، فأنت لا تقول أنا أؤمن بأنى أقرأ الآن فى كتاب خواطر الشيخ الشعراوى حول آيات القرآن الكريم ، لأنك بالفعل تقرأ هذه الخواطر الآن . وأنت لا تقول : أنا أؤمن بأن النور يضئ الحجرة لأن هذا أمر مشهدى ،وليس أمراً غيبياً والإيمان يكون دائماً بأمر غيبى ، ولكن إذا جاءت الآيات فإننا ننتقل من الإيمان بالأمر الغيبى إلى الإيمان بالأمر الحسى ، وحينئذ لا ينفع الإيمان من الكافر ، ولا تقبل الطاعة من صدقة أوغيرها من أنواع البر والخير بعد أن تبلغ الروح الحلقوم وتقول : لفلان كذا ولفلان كذا ، وقد كان لفلان . هذا لا ينفع ، لأن المال لم يعد مالك ، بل صار مال الورثة ، كذلك الذى لم يؤمن وبعد ذلك رأى الآيات الستة التى قال الشارع عنها : أنها ستحدث بين يدى الساعة أو فبل مجئ الساعة . وساعة ترى هذه الآيات لن تُقبل منك أن تقول آمنت ، لأن الإيمان إنما يكون بالأمر الغيبى ، وظهور الآيات هو أمر مشهدى فلن يُقبل بعده إعلان الإيمان . والحق هو القائل :

{أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً (158)}

(سورة الأنعام)

أى أن الإيمان يجب أن يكون سابقاً لظهور الآيات ، وألا يكون المانع له من العمل القصور ، كأن يكون الإنسان – والعياذ بالله – مجنوناً ولم يفق إلا بعد مجئ العلامة ، أو لم يَبْلُغ إلا بعد وجود العلامة فهذا هو من ينفعه الإيمان .

وقد عرض الحق لنا من هذه الصور ما حدث فى التاريخ السابق ، فهو القائل :

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90)} (سورة يونس)

وماذا كان رد الله عليه؟ لقد قال سبحانه:

{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ...(91)} (سورة يونس)

إذن : إذا بلغت الروح الحلقوم ، وهذه مقدمات الموت فلا ينفع حينئذ إعلانك الإيمان .

ويذيل الحق الآية بقوله :

{..انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)} (سورة الأنعام)

هم منتظرون الخيبة ونحن منتظرون الفلاح .