أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ

مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)

 

والبلاغ هو إنهاء الأمر إلى صاحبه, فيقال : بلغت المكان الفلانى .. أى أنتهيت إليه . و ((البلاغة )) هى النهاية فى أداء العبارة الجميلة, و(( أبلغكم )) أى أنهى إليكم ما حملنيه الحق من منهج هداية لحركة حياتكم.( أبلغكم رسالات ربى).

وكان يكفى أن يقول : (( رسالة ربى )) إلا أنه قال : (رسالات ربى) لأن أى رسول يأتى بالمنهج الثابت كما جاءت به الرسل السابقون , فما قاله وجاء به أى رسول سابق يقوله , ونعلم أنه كانت هناك صحف لشيت ولإدريس. فقال : إنه يبلغ رسالته المتضمنة للرسالات السابقة سواء رسالة إدريس وهو اخنوخ , وكذلك شيت وغيرة من الرسل.

أى أبلغكم كل ما جعله الله منهجاً لأهل الأرض من الأمور المستقيمة الثابتة , مثلما قال سبحانه :

 

 

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)              من الآية 13 سورة الشورى

 

وهو الأمور المستقرة الثابتة العقدية , والأحكام التى لا تتغير . أو (( رسالات ربى )) , لأنه كرسول يتلقى كل يوم قسطاً من الرسالة , فاليوم جاءت له رسالة يبلغها , وغداً تأتى له رسالة يبلغها , ولو قال : (( الرسالة )) لكان عليه أن ينتظر حتى تكتمل البلاغات من الله له ثم يبلغها, ولو قال (( الرساله )) لكان عليه أن ينتظر حتى تكتمل البلاغات من الله له ثم يقولها , ولكن نوح كان يبلغ كل رسالة تأتيه فى وقت إبلاغه بها , لذلك فهى (( رسالات )). أو لأن موضوع الرسالات أمر متشعب تشعباً يماثل ما تحتاج إليه الحياة من مصالح , فهناك رسالة للأوامر , ورسالة للنواهى , ورسالة للوعظ , ورسالة للزجر, ورسالة للتبشير , ورسالة للإنذار , ورسالة للقصص , وهكذا تكون رسالات.

أو أن كل نجم – أى جزء من القرآن وقسط منه – يعتبر رسالة , فما يرسله الله فى يوم هو رساله للنبى , وغداً له رسالة أخرى وهكذا .

وقوله : (( أنصح لكم)) لأن البلاغ يقتضى أن يقول لهم منهج الله , ثم يدعو القوم لاتباع هذا المنهج بأن يرقق قلوبهم ويخاطبهم بالأسلوب الهادئ وينصحهم , والنصح أمر خارج عن بلاغ الرسالة.

ولنلتفت إلى فهم العبارة القرآنية ( وأنصح لكم )

والنصح أن توضح للإنسان المصلحة فى العمل , وتجرد نيتك مما يشوهه. وهل أنت تنصح آخر بأمر يعود عليه وعليك فهذه نصيحة لك وله , ولكن حينما تقول : (( نصحت لك )) . أى أن النصيحة ليس فيها مسألة خاصة بك , بل كل ما فيها لصالح من تبلغه فقط , وبذلك يتضح الفارق بين (( نصحته )) و (( نصحت لك)).

 

(وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)         من الآية 62 سورة الأعراف

 

 وكأن سيدنا نوحاً يخاطب قومه : إياكم أن تظنوا أن ما أقوله لكم الآن هو كل العلم من الله , ولا كل علم الله, ولا كل ما علمنى الله , بل أنا عندى مسائل أخرى سوف أقولها لكم إن أتقيتم الله وامتلكتم الاستعداد الإيمانى , وهنا سأعطيكم منها جرعات . أو قوله : (( وأعلم من الله مالا تعلمون )) يعنى أنه سيحدث لكم أمر فى الدنيا لم يحصل للأمم السابقة عليكم وهو أن من يُكذب الرسول يأخذه الله بذنبه . وتلك التجربة لم تحدث مع قوم شيت أو إدريس.

 

(فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا)                          ( من الآية 40 سورة العنكبوت)   

           

ولم يحدث مثل هذا العقاب قبل نوح , وقد بين لهم نوح : أنا أعلم أن ربنا قد دبر لكم أن من يُكَذبَ سيأخذه أخذ عزيز مقتدر.

أو (( وأعلم من الله ما لا تعلمون )) , أى أن الله أعلمنى لا على قدر ما قلت لكم من الخير , لكنه سبحانه قد علمنى أن لكل إخبار بالخير ميلاداً وميعاداً.

ويقول سبحانه بعد ذلك :

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى

رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا

وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)