أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى

رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا

وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)

 

(( أو عجبتم )) وكان من الممكن أن يقول : (( أعجبتم )) , لكن ساعة أن يجئ بهمزة الاستفهام ويأتى بعدها بحرف عطف . فاعرف أن هناك عطفاً  على جملة , أى أنه يقول : أكذبتم بى , وعجبتم من أن الله أرسل على لسانى (( ذكر من ربكم )) . والذكر ضد النسيان , وأن الشئ يكون على البال , ومرة يتجاوز البال ويجرى على اللسان .

وقد وردت معانٍ كثيرة للذكر فى القرآن , وأول هذه المعانى  وقمتها أن الذكر حين يطلق يراد به القرآن :

 

ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)             سورة آل عمران

 

وكذلك فى قوله الحق :

 

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)                  سورة الحجر

 

إذن يطلق الذكر ويراد به القرآن , ومرة يطلق الذكر ويراد به الصيت أى الشهرة الإعلاميه الواسعه. وقد قال الحق لرسوله عن القرآن :

 

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ )         من الآيه (44) سورة الزخرف

 

أى أن القرآن شرف كبير لك ولأمتك سيجعل لكم به صيتاً إلى يوم القيامة , لأن الناس سترى فى القرآن على تعاقب العصور كل عجيبة من العجائب , وسيعلمون كيف أن الكون يصدق القرآن , إذن بفضل القرآن (( العربى)) , سيظل اسم العرب ملتصقا ومرتبطا بالقرآن , وكل شرف للقرآن ينال معه العرب شرفا جديداً.

أى إن القرآن شرف لكم . ويقول سبحانه :

 

(أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ )          من الآيه(10) سورة الأنبياء

 

أى فيه شرفكم , وفيه صيتكم , وفيه تاريخكم , ويأتى الأسلام الذى ينسخ القوميات والأجناس , ويجعل الناس كلهم سواسية كأسنان المشط.

 

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ٌ )     من الآيه(13) سورة الحجرات

 

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :

( لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى )

وسيظل القرآن عربياً , وهو معجزة فى لغة العرب , وبه ستظل كلمة العرب موجودة فى هذه الدنيا . إذن فشرف القوم يجئ من شرف القرآن , ومن صيت القرآن . والحق يقول :

 

(ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1)  )          سورة ص

 

أى أن شرفه دائم أبداً . حين يأتى إلى الدنيا سبق علمى , فنجد من يذهب إلى البحث عن أصول السبق العلمى فى القرآن , ونجد غير المسلمين يعتنون بالقرآن ويطبعونه فى صفحة واحدة , وعلى ورق فاخر قد لا يستعملونه فى كتبهم . هذا هو القرآن ذو الذكر على الرغم من أن بعض المسلمين ينحرفون قليلاً عن المنهج , وقد يتناساه بعضهم , لكن فى فى مسأله القرآن نجد الكل يتنبه . وكما قلت من قبل : قد تجد امرأة كاشفة للوجه  وتضع مصحفاً كبيراً على صدرها , وقد تجد من لا يصلى ويركب سيارة يضع فيها المصحف , وكل هذا ذكر. وتجد القرآن يُقرأ مرتلاً , ويُقرأ مجوداً , ومجوداً بالعشرة ثم يسجل بمسجلات يصنعها من لا يؤمنون بالقرآن . وكل هذا ذكر وشرف كبير .

عرفنا أن (( الذكر)) قد ورد أولا بمعنى القرآن , وورد بأسم الصيت والشرف : ويطلق الذكر ويراد به ما نزل على جميع الرسل , فالحق سبحانه يقول :

 

 اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)                                                           سورة الأنبياء

 

أى أن كل ما نزل على الرسل ذكر .

ويقول سبحانه :

 

 وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)            سورة الأنبياء

 

إذن فالمراد بالذكر – أيضاً – كل ما نزل على الرسل من منهج الله .

ومرة يُطلق الذكر ويراد به معنى الاعتبار . والتذكير , والتذكر فيقول سبحانه :

 

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)

                                                                                                                     سورة المائدة

 

والمراد هنا بالذكر : الاعتبار والتذكر وأن تعيش كمسلم فى منهج الله . ومرة يراد بالذكر : التسبيح , والتحميد . أنظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى :

 

 

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ........(37)        سورة النور

 

وهو ذكر لأن هناك من يسبح له فيها بالغدو والآصال وهم رجال موصوفون بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله . وقد يُطلق الذكر ويراد منه خير الله على عبادة ويراد به كذلك ذكر عبادتهم له بالطاعة , فسبحانه يذكرهم بالخير وهم يذكرونه بالطاعة , اقرأ إن شئت قول الحق سبحانه وتعالى :

 

 

( .....وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)       سورة النحل

 

وفى آية أخرى :

 

(.....إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)       سورة العنكبوت

 

 

وما دام قد قال جل وعلا : (( ولذكر الله أكبر )) أى ذكر الله لهم بالنعم والخيرات , فذكره فضل وإحسان وهو الكبير المتعال . فهناك إذن ذكر ثانِ , ذكر أقل منه , وهو العبادة لربهم بالطاعة , هنا يقول الحق :

 

 

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)       سورة الأعراف

 

 

 ما وجه العجب هنا؟ نعلم أن العجب هو إظهار الدهشة وانفعال النفس من حصول شئ على غير ما تقتضيه مواقع الأمور ومقدماتها , إذن تظهر الدهشة ونتسائل كيف حدث هذا ؟ ولو كان الأمر طبيعياً ورتيباً لما حدثت تلك الدهشه وذلك العجب . وعجبتم لماذا ؟ اقرأ – إذن – قول الحق سبحانه وتعالى :

 

 

(ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ......... (2)            سورة ق

 

 

موضع العجب هنا أن جاء لهم منذر ورسول من جنسهم , فمن أى جنس كانوا يريدون الرسول؟ كان من غبائهم أنهم أرادوا الرسول مَلَكاً .

 

 

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)              سورة ق

 

 

وجاء العجب أيضاً فى البعث . فتسأل الكافرون هل بعد أن ذهبنا وغبنا فى الأرض وصرنا تراباً بعد الموت يجمعنا البعث مرة ثانية؟!

إذن فالعجب معناه إظهار الدهشة من أمر لا تدعوا إليه المقدمات أو من أمر يخالف المقدمات.

العجب عندهم فى الآيه التى نحن بصدد خواطرنا عنها لأن نوحاً عليه السلام يريد منهم أن يبحثوا فى الإيمان بوجود إله . وكان المنطق يقتضى أنه إذا رأوا شيئاً هندسته بديعه , وحكيمه , وطرأ عليها هذا المخلوق وهو الأنسان ليجد الكون منسقاً موجوداً من قبله , كان المنطق أن يبحث هذا الإنسان عمن خلق هذا الكون وأن يلح فى أن يعرف من صنع الكون , وحين يأتى الرسول ليقول لكم من صنع هذا الكون , تتعجبون؟!

كان القياس أن تتلهفوا على من يخبركم بهذه الحقيقه , لأن الكون وأجناسه من النبات والجماد والحيوان فى خدمتك أيها الإنسان . لا بقوتك خلقت هذا الكون ولا تلك الأجناس , بل أنت طارئ على الكون والأجناس , ألم يدر بخلدك أن تتسائل من صنع لك ذلك ؟

إذن فالكلام عن الإيمان كان يجب أن يكون عمل العقل : وقلت قديماً : هب أن إنساناً وقعت به طائرة فى مكان , وهذا المكان ليس به من وسائل الحياة شئ أبداً , ثم جاع , ولم يجد طعاماً , وقهره التعب , فنام , ثم أفاق من هذه الأغفائة , وفوجئ بمائده أمامه عليها أطايب الطعام والشراب وهو لا يعرف أحداً فى المكان , بالله قبل أن يأكل ألا يتسائل عمن أحضرها ؟!! كان الواجب يقتضى ذلك .

إذن أنتم تتعجبون من شئ تقتضى الفطرة أن نبحث عنه , وأن نؤمن به وهو الإله الذى لا ينتفع بطاعتنا أوبعبادتنا , ولا تعود عليه العبادة بشئ , بل تعود علينا , والعبادة فيها مشقات لأنها تلجم الشهوات وتعقل وتمنع من المعاصى والمحرمات , ولكن يُقابل ذلك الثوابُ فى الآخرة .

وهناك من قال : ولماذا لا يعطينا الثواب بدون متاعب التكليف ؟ ما دام لا يستفيد . إن العقل كاف ليدلنا – دون منهج – إلى ما هو حسن فنفعله , وما نراه سيئاً فلا نفعهله , والذى لا نعرفه أهو حسن أم سيئ . ونضطر له نفعله , وإن لم نكن فى حاجة له لا نفعله .

ونقول لهذا القائل : لكن من الذى أخبرك أن العقل كاف ليدلنا إلى الأمر الحسن , هل حسن لك وحدك أم لك وللأخرين؟ فقد يكون الحسن بالنسبة لك هو السوء بالنسبة لغيرك لأنك لست وحدك فى الكون . ولنفترض أن هناك قطعه قماش واحده , الحسن عندك أن تأخذها , والحسن عند غيرك أن يأخذها. لكن الحُسْن الحقيقى أن يفصل فى مسألة ملكية هذه القطعة من القماش من يعدل بينك وبين غيرك دون هوى . وألاَّ يكون واحد أولى عنده من الآخر . إذن لابد أن يوجد إله يعصمنا من أهوائنا بمنهج ينزله يبين لنا الحسن من السيئ , لأن الحسن بالمنطق البشرى ستصطدم به أهواؤنا .

ومثال اخر : افرض أننا دخلنا مدينة ما , ورأينا مسكنا جميلا فاخرا وكل من يريد أن يسكم فيه وكل واحد يريد أن يأخذه , لأن ذلك هو الحسن بالنسبه له , لكن ليس كذلك بالنسبه لغيرة , إذن فالحسن عندك قد يكون قبيحاً عند الغير . فالحسن عند بعض الرجال إذا ما رأى امرأة أن ينظر إليها ويتكلم معها , لكن هل هذا حسن عند أهلها أو أبيها أو زوجها ؟ . لا .

إنّ الذى تعجبتم منه كان يجب أن تأخذوه على أنه هو الأمر الطبيعى الفطرى الذى تستلزمه المقدمات . فقد جاءكم البلاغ على لسان رجل منكم . ولماذا لم يقل الحق : لسان رجل؟ إننا نعلم أن هناك آية ثانية يقول فيها الحق :

 

     (رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكََ )          من الآيه 194 أل عمران

 

كأنه يقول لهم : إن الوعد الذى وعده الحق لكم قد جاء لكم بالمنهج الذى نزل على الرسل . ومهمه الرسل صعبة , فليست مقصورة على التبليغ باللسان لأن مشقاتها كلها على كاهل كل رسول , ولا تظنوا أن ربنا حين أختار رسولاً قد أختاره ليدلله على رقاب الناس , لا . لقد أختاره وهو يعلم أن المهمة صعبة , والرسول صلى الله عليه وسلم – كما تعلمون – لم يشبع من خبز شعير قط , وأولاده وأهله – على سبيل المثال – لا يأخذون من الزكاة , والرسل لا تورث فجميع ما تركوه صدقة , وكل تبعات الدعوة على الرسول , وهذه هى الفائدة فى أنه لم يقل على لسان رسول , لأن الأمر لو كان على لسان الرسول فقط لأعطى البلاغ فقط , إنما (( على رجل منكم )) تعطى البلاغ ومسئولية البلاغ على هذا الرجل .

 

 

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ)      من الآية 63 سورة الأعراف

 

 

ما هو العجب؟ لقد كان العجب أن تردوا الألوهية والنبوة. وبعضهم لم يرد الألوهية ورد فكرة النبوة على الإنسان . وطالب أن يكون الرسول من الملائكة , لأن الملائكة لم تعص ولها هيبة ولا يُعرف عنها الكذب . لكن كيف يصبح الرسول ماكاً ؟ وهل أنت ترى الملك ؟ إن البلاغ عن الله يقتضى المواجهه , ولابد أن يراه القوم ويكلموه , والملك أنت لن تراه . إذن فلسوف يتشكل على هيئة رجل كما تشكل جبريل بهيئة رجل . إذن أنتم تستعجبون من شئ كان المنطق يقتضى ألا يكون .

 

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)         سورة الإسراء

 

وقولهم هذا فى قمة الغباء , فقد كان عليهم أن يتهافتوا ويقبلوا على الإيمان , لأن الرسول منهم . وقد عرفوا ماضيه من قبل , وكذلك أنسوا به , ولو كانت له انحرافات قبل أن يكون رسولاً لخزى واستحيا أن يقول لهم : استقيموا . وما دام هو منكم وتعرفون تاريخه وسلوكه حين دعاكم للأستقامه كان من الواجب أن تقولوا لأنفسكم : إنه لم يكذب فى أمور الدنيا فكيف يكذب فى أمور الآخرة , ولم يسبق له أن كذب على خلق الله فكيف يكذب على الله ؟ ولأنه منكم فلابد أن يكون إنساناً ولذلك قال الحق :

 

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)              سورة الأنعام

 

وهنا فى الآية التى نحن بصددها يقول الحق : ( على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم تُرحمون ) . إذن فمهمته أن ينذر , والأنذار لقصد التقوى ,والتقوى غايتها الرحمة , وبذلك نجد هنا مراحل : الإنذار وهو إخبار بما يسوؤك ولم يأت زمنه بعد وذلك لتستعد له , وتكف لأنه سيتبعك ويضايقك . والبشارة ضد الإنذار , لأنها تخبر بشئ سار زمنه لم يأت , وفائدة ذلك أن يجبد الإنسان كل قوته ليستقبل الخيرالقادم . وأن يبتعد عن الشئ المخيف. وهكذا يكون التبشير والإنذار لتتقى الشرور وتأخذ الخير , وبذلك يحيا الإنسان فى التقوى التى تؤدى إلى الرحمة .

إذن فمواطن تعجبهم من أن يجيئهم رسول مردودة , لأن مواطن التعجب هذه كان يجب أن يلح عليها فطرياً , وأن تنعطف النفس إليها لا أن يتعجب أحد لأنها جاءت , فقد جاءت الرسالة موافقة للمقدمات , وقد جاء الرسول ولم يأت ملكاً ليكون قدوة .

وكذلك لم يرسله الله من أهل الجاه ومن الأعيان ومن صاحب الأتباع , حتى لا يقال أن الرسالة قد أنتشرت بقهر العزوة , إن الأتباع كانوا موافقين على الباطل بتسلط الكبراء والسادة , فمخافه أن يقال : إن كل تشريع من الله آزره المبطلون بأتباعهم جاءت الدعوة على أيدى الذين ليس لهم أتباع ولا هم من أصحاب الجاه والسلطان . ولقد تمنى أهل الشرك ذلك ويقول القرآن على لسانهم :

 

 وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)     سورة الزخرف

 

ولقد كان تمنيهم أن ينزل القرآن على رجل عظيم بمعاييرهم , وهذه شهادة منهم بأن القرأن فى ذاته منهج ومعجزة . ولم يتساءلوا : وهل القرأن يشرف بمحمد أو محمد هو الذى يشرف بالقرأن ؟ إن محمداً يشرف بالقرآن , ولذلك يقول الحق :

 

 

(مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ... (27)          سورة هود

 

وهذه هى العظمة , لأن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لم يكونوا من الذين يفرض عليهم الواقع أن يحافظوا على جاههم ويعملوا بسطوتهم وبطشهم وبقوتهم , ويفرضوا الدين بقوة سلطانهم , لا , بل يمر أتباع رسول الله فترة ضعاف مضطهدون , ويؤذوَّن ويهاجرون , فالمهمة فى البلاغ عن الله تأتى لينذر الرسول , ويتقى الأتباع لتنالهم الرحمة نتيجه التقوى , والتقوى جائت نتيجه الإنذار .

ويقول الحق بعد ذلك :

فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ

وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ

كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)