وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا

مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)

 

وكما قال الحق : ( لقد أرسلنا نوحاً ) وقال : ( وإلى عاد أخاهم هوداً ) , ( وإلى ثمود أخاهم صالحاً ) فهو هنا يأتى  باسم (( لوط )) منصوباً لأنه معطوف على من سبقه من أصحاب الرسالات .

وما هو زمان الإرسال ؟ إن قوله الحق : ( إذ قال لقومه ) يفيد أن زمن القول كان وقت الإرسال . وهى الإشارة القرآنية ذات الدلالة الواضحة على أن الرسول حين يبعث ويرسل إليه ويبلغ الرسالة لا يتوانى لحظه فى أداء المهمة , فكأن تبليغ الرسالة تزامن مع قوله : ( يا قوم ) . والأسلوب يريد أن يبين لك أنه بمجرد أن يقال له : (( بلغ )) فهو يبلغ الرسالة على الفور , وكأن الرسالة جاءت ساعة التبليغ فلا فاصل بينهما.

 

(وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ )             من الآية (80) سورة الأعراف

 

وكلمه (( قومه )) تعنى أنه منهم , ولماذا لم يقل : (( أخاهم لوطاً )) ؟ وهذه لها معنى يفيد أن السابقين من الرسل كانوا من بيئة الأقوام الذين أرسلوا إليهم , فعاد كان (( هود )) من بيئتهم , و (( ثمود )) كان صالح من بيئتهم . وإذا كان الحق لم يقل (( أخاهم لوطاً )) فلنلحظ أنه أوضح أنه قد أرسله إلى قومه , وهذه تنبهنا إلى أن لوطا ً لم يكن من هذا المكان , لأن لوطاً وإبارهيم عليهما السلام كانا من مدينة بعيدة , وجاء إلى هذا المكان فراراً من الأضطهاد هو وأبراهيم عليهما السلام , وهذا يبين لنا أن لوطاً طارئ على هذا المكان , ولم يكن أخاهم المقيم معهم فى البيئة نفسها . ولكنهم (( قومه )) لأنه عاش معهم فترة فعرف بعضهم بعضاً , وعرفوا بعضاً من صفاته , وأنسوا به.

أقول ذلك لننتبه إلى دقة أداء القرآن , فمع أن القصص واحد فسبحانه يضع لنا التمييز الدقيق , ولم يقل لهم لوط : إن ربى نهاكم عن هذه العلية القذرة وهى إتيان الرجال . بل أراد أن يستفهم منهم استفهاماً قد يردعهم عن العملية ويقبحها .

وكان استفهام سيدنا لوط هو استفهام تقريع , واستفهام إنكار , فلم يقل لهم : إن ربنا يقول لكم امتنعوا عن هذا الفعل , بل يستنكر الفعل كعمل مضاد للفطرة , وأستنكار فطرى .

 

(أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ)               من الآية (80) سورة الأعراف

 

وهذا يدل على أنه يريد أن يسألهم سؤالاً إنكارياً ليحرجهم , لأن العقل الفطرى يأبى هذه العملية : ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ) .

أى أن هذه المسألة لم تحدث من قبل لأنها عملية مستقذرة , لأن الرجل إنما يأتى الرجل فى محل القذارة , لكنهم فعلوها , وهذا الفعل يدل على أنها مسألة قد تشتهيها النفس غير السوية . ولكنها عملية قذرة تأباها الفطرة السليمة .

وكلمه (( فاحشة )) تعطينا معنى التزيد فى القبح , فهى ليست قبحاً فقط , بل تَزَيدُ وإيغال وتعمق فى القبح ومبالغة فيه , لأن الفاحشة تكون أيضاً إذا ما أتى الرجل أنثى معدة لهذه العملية لأنه لم يعقد عليها , ولم يتخذها زوجا , وعندما يتزوجها تصير حِلاً له , لكن إتيان الذكر للذكر هو تزيد فى الفحش . وإذا كان هذا الأمر محرماً فى الأنثى التى ليست حلالاً له ويعد فاحشة , فالرجل غير مخلوق لمثل هذا الفعل ولا يمكن أن يصير حلالاً , يكون إتيانه فاحشة بمعنى مركب .

 

(.........أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)              سورة الاعراف

 

وقلنا من قبل : إن (( من )) قد تأتى مرة زائده , ويمكنك أن تقول إنها زائدة فى كلام الإنسان , لكن من العيب أن تقول ذلك فى كلام ربنا . وقولة :

 

 (مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ).

 

أى ماسبقكم أحد من العالمين , و((أحد)) هى الفاعل , وجاءت ((من)) لتوضح لنا أنه لم يأت بها أحد ابتداءً , مثلما قلنا قديماً , حين تأتى لواحد لتقول له : (( ما عندى مال )). فأنت قد نفيت أن يكون عندك مال يعتد به . وقد يكون معك من بداية ما يقال له أنه مال , وقوله الحق :

 

(مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)              سورة الأعراف

 

يعنى أنه لم يسبقكم أى أحد من بداية ما يقال له أحد , وسبحانه يريد بذلك أن ينفيها أكثر, و((من)) التى فى قوله:( من العالمين ) هى تبعيضية أى ما سبقكم بها أحد ((من بعض)) العالمين . فما هذا الأمر؟ لقد سماها فاحشة , وهى تزيد فى القبح ووصفة لها بأنها يأتها أحد من العالمين جعلها مسأله فظيعة للغاية.

لأننا حين نبحث هذه المسألة بحثاً عقلياً نجد أن الإنسان مخلوق كخليفة فى الأرض وعلية إستبقاء نوعه , لأن كل فرد له عمر محدود , ويخلف الناس بعضهم بعضاً , ولابد من بقاء النوع , ومهمة الخلافة تفرض أن يخلف بعضنا بعضاً .

وكل خليفة يحتاج إلى إقتيات وإلى إنجاب . و(( الإقتيات)) خلقه الله فى الأرض التى قدر فيها أقواتها.

والنوع البشرى جعل منه سبحانه الذكر والأنثى ومنهما يأتى الإنجاب الخلافى , فهو محمول أولاً فى ظهر أبيه نطفة , ثم فى أمه جنيناً ثم تضعه لترعاه مع والده ويربيه الأثنان حتى يبلغ رشده . وهذه خمس مراحل , وكل مرحلة منها شاقة , فحمل الأم فى الطفل تسعة شهور هو أمر شاق , لأن الإنسان منا إن حمل شيئاً طوال النهار سيصاب بالتعب , لكن الأم تحمل الجنين تسعه أشهر , وأراد الله أن يكون الحمل انسيابياً بمعنى أن الجنين فى نشأته الأولى لايبلغ وزنه إلا أقل القليل , ثم يكبر بهدوء  وبطء لمدة تسعة شهور حتى يكتمل نموه .

وهذا الجنين كان صغيراً فى بدء تكوينه , ثم صار وزنه غالباً ثلاثة كيلوا جرام فى يوم ولادته , وبين بدء تكوينه ,إلى لحظة ميلاده هناك فترة زمنية ينمو فيها هذا الجنين تدريجياً , وبشكل انسيابى , فهو لا يزيد فى الوزن كل ساعة , بل ينمو فى كل جزء من المليون من الثانية بمقدار يناسب هذا الجزء من الثانية , وهذا يعنى أن الجنين ينمو انسيابياً بما يناسب الزمن .

نلحظ ذلك أيضاً فى أثناء التدريب على رياضة حمل الأثقال أنهم لا يدربون اللاعب الناشئ على حمل مائه كيلو جرام من أول مرة بل يدربونه على حمل عشرين كيلوا جراماً فى البداية , ثم يزداد الحمل تباعاً بما لا يجعل حامل الأثقال فى عنت , ويسمون  ذلك : انسياب التدريب , لأن حمل هذه الأثقال يحتاج إلى تعود , ولهذا لا يتم تدريبه على حمل الأثقال فجأة , بل بإنسياب بحيث لا يدرك الزمن مع الحركة , كذلك النمو , فأنت إذا نظرت إلى طفلك الوليد ساعة تلده أمه , وسأقدر جدلاً أنك ظللت تنظر إليه دائماً , فهو لا يكبر فى نظرك أبداً , لأنه ينمو بطريقة غير محسوسة لديك , لكنك لو غبت شهراً عنه وتعود لرؤيته ستدرك نموه , وهذا النمو الزائد قد تجمع فى الزمن الفاصل بين آخر مرة رأيته فيها قبل غيابك وأول مرة تراه بعد عودتك .

ومن لطف الله – إذن – فى الحمل أن الجنين ينمو إنسيابياً , ولذلك يزداد الرحم كل يوم من بدء الحمل إلى آخر يوم فيه , وترى الأم الحامل , وهى تسير بوهن وتبطئ فى حركتها , ثم يأتى الميلاد مصحوباً بمتاعب الولادة وآلامها , وبعد أن يولد المولود تستقبله رعاية أمه ةأبيه , ويأخذ سنوات إلى أن يبلغ الرشد . ونعلم أن أطول الأجناس طفولة هو الإنسان , ولذلك نجد الأب الذى يريد الإنجاب يتحمل مع الأم متاعب التربية , وقد قرن الله هذا الأمر بشهوة , وهى أعنف شهوة تأتى من الإنسان , وبعد ميلاد الطفل نجد المرأة تقول : لن أحمل مرة أخرى , ولكنها تحمل بعد ذلك.

إذن كأن الشهوة هى الطُعم الموضوع فى المصيدة ليأتى بالصيد وهو الإنجاب , لذلك قرن الحق الإنجاب بالشهوة لنقبل عليها , وبعد أن نقبل عليها , ونتورط فيها نتوفر ونبذل الجهد لنربى الأولاد . فإذا أنت عزلت هذه الشهوة عن الإنجاب والامتداد تكون قد أخللت وملت عن سنة الكون , لأنك ستأخذ اللذة بدون الإنجاب , وإذا تعطل الإنجاب تعطلت خلافة الأرض , والشئ الأخر أن الرجل فى الجماع يلعب دور الفاعل , وفى الشذوذ وهو العملية المضادة التى فعلها قوم لوط ينقلب الرجل إلى منفعل بعد أن كان فاعلاً .

 

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)             سورة الأعراف

 

والفاحشة هى العملية الجنسية الشاذة , ولم يحددها سبحانه من البداية كدليل على أنها أمر معلوم بالفطرة , فساعة يقول : ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ) يعرفون ما فعلوا . وإن افترضنا أن هناك أغبياء أو من يدعون الغباء ويرفضون الفهم , فقد جاء بعدها بالقول الواضح :

 

إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ

قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)