وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ

مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ

وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ

 وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا

ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ

مُؤْمِنِينَ (85)

 

و((مدين)) هو ابن من أبناء سيدنا إبراهيم جاء وأستقر فى هذا المكان , فهو علم على شخصه , وعلم على المكان الذى أقام فيه وسمى المكان بأسمه , فلما تكاثر أبناؤه وصاروا قبيلة أخذت القبيلة اسمه. إذن ف((مدين ))

اسم عَلَمُ على ابن إبراهيم , وأطلق على المكان الذى استقر فيه من طور سيناء إلى الفرات , وأطلق على القبيلة:  

(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا )

الحق سبحانه وتعالى هنا يكرر ((أخ)) ليبين ذلك , أنه إن قسا عليهم مرة فسيحنو عليهم مرة أخرى , لأنهم أخوة له ومأنوس بهم , وفيهم عاش ويعرفون عنه كل شئ , وكان مدين قد تزوج من رقبة ابنة سيدنا لوط , وحين تكاثر الأثنان صاروا قبيلة , ويبلغهم سيدنا شعيب بالقضية العقدية التى يبلغها كل رسول :

(قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)

والعبادة هى الطاعة للأمر والطاعة للنهى , وأنت لا تطيع أمر آمر ولا نهى ناه إلا إذا كان أعلى منك , لأنه إن كان مساوياً لك , فبعد أن يقول لك : (( افعل كذا )) ستسأله أنت : لماذا؟, وبعد أن ينهاك عن شئ ستسأله أيضا : لماذا ؟ . لكن الأب حينما يقول لطفله : لا تفعل الشئ الفلانى , فالأبن لا يناقش , لأنه يعرف أن أباه هو من يطعمه ويشربه ويكسوه , وحين يكبر الطفل فهو يناقش , لأن ذاتيته تتكون , ويريد أن يعرف الأمر الذى سيقدم عليه .

 

(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ..... (85)  

                                                                                                                    سورة الأعراف

 

وما دام قد قال لهم : (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) فهو رسول قادم ومرسل من الله , ولابد أن تكون معجزة يثبتها , إلا أن تكون معجزة يثبتها , إلا أن شعيباً لم يأت لنا بالمعجزة , إنما جاء بالبينة .

 

(قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ .... (85)             سورة الأعراف

 

لأن كل المعاصى والكفر دفع إلى الإخلال فى الكيل والميزان , وإذا كان شعيب قد قال ذلك لقومه فلابد أن الإخلال فى الكيل والميزان كان هو الأمر الشائع فيهم .فيأتى ليعالج الأمر الشائع . وهم كانوا يبخسون الكيل والميزان.

ويظن الناس فى ظاهر الأمر أنها عملية سهلة , وأن القبح فيها قليل , والاختلاس فيها هين يسير , فحين يبخس فى الميزان ولو بجزء قليل , إنما يأخذ لنفسه فى آخر الأمر جزءاً كبيراً وأنت ساعة تكيل وتزن وتطفف فأنت تفعل ذلك فى من يشترى . وستذهب انت بعد ذلك لتشترى من أناس كثيرين سيفعلون مثلما فعلت , فإذا ما وفيت الكيل والميزان , فأنت تفعل ماهو فى مصلحتك , لأنك تنشر العدل السلوكى بين الناس بادئاً بنفسك , ومصالحك كلها مع الآخرين.

إنك حين تبيع أى سلعه ولو كانت بلحاً وتنقص فى الميزان , سنحقق لنفسك ربحاً ليس لك فيه حق ,وإن كنت تكيل قمحاً لتبيعه وأنقصت الكيل , فأنت تأخذ ما ليس لك , والقمح والبلح هما بعض من مقومات حياتك , لأنك تحتاج إلى سلع كثيرة عند من يزن , وعند من يكيل , فإن أنقصت الميزان أو الكيل فلسوف يفعلون مثلما فعلت فيما يملكون لك , وبذلك تخسر أنت ويصبح الخسران عاماً .

 

(فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ...َ (85)               سورة الأنعام

 

وإذا كانت الخسارة فى الكيل والميزان طفيفة ومحتملة , فمن باب أولى ألا نبخس الناس أشياءهم فلا نظلمهم بأخذ أموالهم والاستيلاء على حقوقهم , فلا نسرف لأن السارق يأخذ ما تصل إليه يده , ولا نغضب , ولا نختلس , ولا نرتشى , لأنه إذا كان وفاء الكيل هو أول مطلوب الله منكم مع أن الخسارة فيه طفيفة , إذن فبخس الناس أشياءهم يكون من باب أولى .

 

ويتابع سبحانه : ( تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ..... (85)          سورة الأعراف

 

وبذلك نكون أمام أكثر من أمر جاء بها نبى الله شعيب : ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) وهذه العبادة لتربى فيهم مهابه وتزيدهم حباً وأحترام للآمر الأعلى , وكذلك ليخافوا من جبروته سبحانه . وبعد ذلك ضرورة يكون الأمر بالوفاء بالكيل والميزان , والزجر عن أن يبخسوا الناس أشياءهم , ثم النهى والتحذير من الإفساد فى الأرض ( ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها ) , والإصلاح الذى يطلبه الله منا أن نستديمه أو نرقيه إنما يتأتى بإيجاد مقومات الحياة على وجه جميل.

مثال ذلك الهواء وهو العنصر الأول فى الحياة المسخرة لك , يصرفه سبحانه حتى لا يفسد . والنعيم الثانى فى الحياة وهو الشراب , إنه سبحانه ينزل لك الماء من السماء , ثم القوت الذى يخرجه لك من الأرض . والمواشى التى تأخذ منها اللبن , والأوبار , والأصواف , والجلود , كل ذلك سخره الله لك , وهذا إصلاح فى الأرض , لكن هل هذه كل المقومات الأساسيه ؟ لآ , لأنه إن وجدت كل هذه المقومات الأساسيه ثم وجد الغصب , والسرقة , والرشوة , والإختلاس , فسيفسد كل شئ , ولا يعدل كل ذلك ويقيمه ويجعله سوياً إلا الدين , لأنه كمنهج يمنع الإفساد فى الأرض .

 

( قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ

           بَعْدَ إِصْلَاحِهَا )                                          من الآيه (85)  سورة الأعراف

 

إذن فهذه الأشياؤ التى هى إيفاء الكيل والميزان يأتى الأمر بها , ثم يتبعها بما ينهى عنه وهو ألا نبخس الناس أشياءهم وألا نفسد فى الأرض بعد إصلاحها , كل ذلك يجمع المنهج. أوامر ونواهى , وقد يبدوا فى ظاهر الأمر أنها مسائل تقيد حرية الإنسان , فنقول : لا تنظر إلى نفسك أيها الإنسان وأنت بمعزل عن المجتمع الواسع , فأنت لا تملك من مصالحك إلا أمراً واحداً , وهذا الأمر الذى تملكه أنت من مصالحك يكون أقل الأشياء عندك , ولكن الأمور الأخرى التى تحتاج إليها هى بيد غيرك , فإن أنت وفيت الكيلوالميزان . فذلك خير لك , فالذى يقيس لك القماش لا يغشك, والذى يزن لك ما ليس عندك  لا يغشك , والذى يكيل لك الذى ليس عندك لا يغشك , إذن فأنت واحد منهى عن أن تفعل ذلك , وجميع الناس منهيون أن يفعلوا ذلك معك , وبذلك تكون أنت الكاسب.

وإذا جئت إلى قوله تعالى : (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ) , فأنت مأمور ألا تبخس الناس أشياءهم , وكل الناس مأمورون ألا يبخسوك شيئاً , وإذا أفسدتت فى الأرض بعد إصلاحها فالناس مأمورون أيضاً ألا يقسدوا هذه الأرض وبذلك تكون احظ منهم فى كل شئ . ولذلك يجب على كل مكلف حين يستقبل تكليفاً قد يكون شاقاً على نفسه أن يتأمل هذا التكليف وأن يقول لنفسه : إياك أن تنظر إلى مشقة التكليف على نفسك , ولكن انظر إلى ما يؤديه لنفسه : إياك أن تنظر إلى التكليف لك : لا تنظر الى محارم غيرك , فقد أمر غيرك ألا ينظر محارمك , وفى هذا عزة لك . وإذا أمرك التكليف ألا تضع يدك فى جيب غيرك وتسرق , فقد أمر كل الناس ألا يضعوا أيديهم فى جيوبك ليسرقوك , وبهذا نعيش فى أمان.

وإذا طلب التكليف منك وأنت غنى أن تخرج زكاة مالك إياك أن تقول : مالى وتعبى وعرقى , لأن المال مال الله , وأنت كإنسان مخلوق ليس لك إلا توجيه الحركة , والحركه تكون بطاقة مخلوقه لله , والعقل الذى خطط مخلوق لله , والإنفعال الذى أنفعل لك فى الأرض من خلق الله , ولكن الحق احترم عملك وناتجه وفرض عليك أن تخرج منه زكاة مقدرة . فإياك أن تقول : إنه يأخذ منى . لماذا ؟ لأن عالم الأغيار باد وظاهر أمامك , وكم رأيت من قوى ضعف , ومن غنى افتقر , فإذا كان سبحانه قد طلب منك أن تعطى الفقير وتقويه , فإن أفتقرت فسيفعل لك ذلك , وفى ذلك تأمين حياتك , لأنك تعيش فى مجتمع فلا تأس على نفسك إن مرت بك الأغيار لأن مجتمعك الإيمانى لن يتركك , أنت أو أولادك , ويقول الحق :

 

 (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)                    سورة النساء

 

فإن أردت أن تطمئن على أولادك الصغار بعد موتك فانظر للأيتام فى مجتمعك وكن أبا لهم , وحين تصير أنت أباً لهم , سيشعر اليتيم أنه فقد أباً واحداً , لكنه يحيا فى مجتمع إيمانى أوجد له من كل المؤمنين آباء , فلا يحزن , وكذلك لن تخاف أنت على أولادك إن صاروا أيتاماً بعد أن غادرتهم إلى لقاء ربك , لأنك رعيت اليتامى وعشت فى مجتمع يرعاهم. ولكنك تحزن عندما ترى يتيماً مضيعاً فى مجتمع لا يقوم على شأنه وتقول لنفسك : أنا إن مت سيضيع أبنائى هكذا .

وهكذا تكون تكاليف الإيمان هى تأميناً للحياة . ومثال ذلك حين نقول للمرأة : تحجبى , ولا تبدى زينتك لغير محارمك , قد تظن المرأة فى ظاهر الأمر أننا ضيقنا على حريتها , لأنها تنسى أن المنهج يؤمن لها قبح الشيخوخة , لأنها حين تتزوج صغيرة , ثم يصل عمرها فوق الأربعين ويتغير شكلها من متاعب الحمل وتربية الأبناء , ثم يرى زوجها فتاة فى العشرين وغير محتشمة قد قفتنه وتصرفه عن زوجته , وينظر إلى زوجته نظر غير المكترث بها , وغير الراغب فيها . فالشرع قد أمر بالحجاب للمرأة وهى صغيره , ليصون لها زوجها إن صارت كبيرة غير مرغوب فيها . فإن منعها وهى صغيرة فقد منع عنها وهى كبيرة , كل ذلك إذن من تأمينات المنهج للحياة .

إذن فإيفاء الكيل , وعدم إبخاس الناس أشياءهم  وعدم الإفساد فى الأرض بعد إصلاحها خير للجميع فى الدنيا, بالإضافة إلى خير الآخرة , ولذلك يذيل الحق الآية الكريمة بقوله :

 

 (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (86)               سورة الأعراف

 

و (( ذلكم )) إشاره إلى ما سبق من الأمر بعبادة الله فلا إله غيره وإلى الآمر باستيفاء الكيل والميزان , وألا نبخس الناس أشياءهم , وألا نفسد فى الأرض بعد إصلاحها , ووضع الحق ذلك فى إطار(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

على الرغم من أن الخير سيأتى أيضاً لغير المؤمن , وهكذا تكون كلمة ((خير)) تشمل خيراً فى الدنيا , وخيراً فى الآخرة للمؤمن فقط . أما الكافر فسيأخذ الخير فى الدنيا فقط , ولا خير له فى الآخرة , فإن كنتم مؤمنين فسيتضاعف  الخير لكم ليصير خيراً دائماً فى الدنيا والآخرة.

ويقول الحق بعد ذلك :

 

وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ

اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا

 إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُواكَيْفَ

كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)