ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا

 قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ

 بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)

 

ويعطى سبحانه بعد ذلك لهم الرزق والعافيه والغنى لأن الحق إذا اراد أن يأخذ جباراً أخذ عزيز مقتدر فهو يمهله , ويرخى له العِنان ليتجبر – كفرعون – من أجل أن يأخذه بغته, وكأنه يسقط من أعلى , فيعليه ويعليه من أجل أن ينزل به - كما يقولون – على جدور رقبته  :(ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا). (عفوا ) أى كثروا عدداً ومالاً وقوة أى أنه ما أخذهم سبحانه بالبأساء والضراء إلا وكان القصد منها أن يلفتهم إليه , فلم يلتفتوا , فيمدهم ويعطى لهم العافيه وما يسرهم , ثم يصيبهم بالعذاب بغته.

 

(ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)

سورة الاعراف

ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى بعد أن تكلم على خلافه الإنسان فى الأرض , أنه أمنه بكل ما تقوم به حياته , وأمده بالقيم بواسطه مناهج السماء , وأنزل المنهج مبينا ما أحل , وما حرم بعد أن كانوا يحلون ما حرم الله , ويحرمون ما أحل الله , فبين لهم الحق أن الذى خلق الخلق عالم بما يصلحهم فأحله , وعالم بما يفسدهم فحرمه, فليس لكم أن تقترحوا على الله حلالاً , ولا حراماً , ولكن بعض المشككين فى منهج الله قالوا – وما زالوا يقولون - :إذا كان الله قد أحل شيئاً وحرك شيئاً فلماذا خلق ما حرم؟ ونقول : لقد خلق سبحانه وتعالى كل شئ لحكمة قد تكون لغير الطعام والشراب والكسوة , فبعض الاشياء يكون مخلوقاً لمهمة وإن لم تكن مباشرة لك , فالبترول مثلا مخلوق لمهمة أن يوجد طاقه , لذلك لا نشربه والخنزير مخلوق لحكمه لا نعلمها نحن , وإنما يعلمها من خلق , لأنه من الجائز أن يكون أداة لالتقاط الميكروبات التى تنشأ من عفن الاشياء التى يستعملها الناس فى حياتهم , إذن فكل شئ مخلوق لحكمه , فلا تخرج أنت حكمه الأشياء من غير مراد خالقها , لأن صانع الصنعه هو الذى يحدد الشئ الذى يوجد وينشئ القوة لها. ونحن نعلم - مثلا – أن أنواع الوقود كثيرة , فهناك البنزين النقى جدا ويرقمونه برقم (1) وهو مخصص للطائرة , ووقود السيارة وهو البنزين رقم (2). فإذا استخدمنا وقود ماكينه وآلة بدل ماكينه أخرى أفسدناها. كذلك خلق الله الإنسان وسخر له كل المخلوقات وأوضح: هذا يصلح لك مباشره , وهذا مخلوق ليخدمك خدمه غير مباشره فدعه فى مكانه.

وبعد أن عرض الحق سبحانه وتعالى مواقف الجنه , ومواقف النار , ومواقف أصحاب الاعراف الذين أستوت حسناتهم وسيئاتهم , وبعد أن بين المنهج كله أراد أن يبين أن ذلك ليس نظرياً , وإنما هو واقع كونى أيضاً. ففرق بين الشئ يقال نظرا , والشئ يقع واقعاً , فقص علينا قصص الأنبياء حين أرسلهم إلى أقوامهم , فمن كذب بالرسل أخذه الله اخذ عزيز مقتدر بواقع يشهدة الجميع , فذكر نوحا مع قومه , وذكر عاداً وأخاهم هوداً , وذكر ثمود وأخاهو صالحاً , ومدين وأخاهم شعيباً , وقوم لوط وسيدنا لوط . وبين ما حدث للمؤمنين بالنجاة , وما حدث للكافرين بالعطب والإذلال, ويوضح الحق سبحانه وتعالى : أننى آخذ الناس بالبأساءوالضراء لعلهم يتضرعون, لأن الإنسان مخلوق افاض الله عليه من صفات جلاله, ومن صفات جماله الشئ الكثير, فالله قوى, وأعطى الإنسان من قوته . والله غنى وأعطى الإنسان من غناه, والله حكيم وأعطى الإنسان من حكمته, والله عليم وأعطى الإنسان من علمه. وإذا أردت أن تستوعب ما يقربك إلى كمال العلم فى الله, فأنظر ما علمه لكل خلق الله. ومع ذلك فعلمهم ناقص. ويردون إلى العلم الذاتى فى الحق سبحانه وتعالى, وربما غر الإنسان بالأسباب وهى تستجيب له, فهو يحرث ويبذر ويروى, وإذا بالأرض تعطيه أكلها . وهو يصنع الشئ فيستجيب له.كل ذلك قد يغريه بأن الأشياء استجابت لذاتيته فيذكره الله : أن اذكر من ذللها لك.

 

 كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7)   

    سورة العلق

 

وساعه ما يجد الإنسان أن كل الأسباب مواتيه له فعليه أن يذكر الله .إن الإنسان بمجرد أراده أن يقوم من مكانه فهو يقوم. وبمجرد إراده أن يصفع أحداً فهو يصفعه , لأن الأبعاض التى فى الإنسان خاضعه لمراده , فأذا كانت أبعاضك خاضعه لمراداتك أنت , وأنت مخلوق, فكيف لا يكون الكون كله مراداً للحق بالإراده ؟ فإذا استغنى الإنسان بالأسباب , فالحق يلفته إليه. فالقادر الذى كان بفتوته يفعل. يسلب الله منه القدرة بالمرض, فيمد يدة ليساعده إنسان على القيام. والذى اعتز بشئ يذله الله بأشياء. لماذا؟ حتى يلفته إلى المسبب, فلا يٌفتن بالأسباب. ويدع لنا الحق سبحانه وتعالى فى كونه عجائب, ونجد العالم وقد تقدم الآن تقدما فضائياً واسعاً, واستطاع الإنسان أن يكتشف من أسرار كون الله ما شاء, ولكن الحق يصنع لهم أحياناً أشياء تدلهم على أنهم لا يزالون عاجزين . فبعد أن تكتمل لهم صناعه الألات المتقدمه يكتشفون خطأً واحداً يفسد الآله ويحطمها, وتهب زوبعه أو إعصار يدمر كل شئ, أو يشتعل حريق هائل. فهل يريد الله بكونه فساداً وقد خلقه بالصلاح؟ لا ,. إنه يريد أن يلفتنا إلى ألا نغتر بما أوتينا من أسباب. فالذين عملوا (الرادار) لكى يبين لهم الحدث قبل أن يقع, يفاجئهم ربنا – أحياناً – بأشياء تعطل عمل ( الرادار) , فيعرفون أنهم ما زالوا ناقصى علم.

إذا فالأخذ بالبأساء, والأخذ بالضراء,سُنه كونيه ليظل الإنسان فاهماً وعالماً أنه خليفه فى الأرض لله. وفساد الإنسان أن يعلم أنه أصيل فى الكون, فلو كنت أصيلا فى الكون فحافظ على نفسك فى الكون ولا تفارقه بالموت. وإن كنت أصيلا فى الكون فذلل الكون لمراداتك. ولن تستطيع , لأن هناك طبائع فى الكون تتمرد عليك, ولا تقدر عليها ابداً. وترى أكثر من مفاعل ذرى ينفجر بعد إحكامه وضبطه لماذا؟! ليدل على طلاقه القدرة وأن يد الله فوق أيديهم , إذن فأخذ الناس بالبأساء والضراء, وبالشئ الذى نقول أنه شر إنما هو طلب اعتدال للإنسان الخليفه, حتى إذا أغتر يرده الله سبحانه وتعالى من الأسباب إلى المسبب. وحين يأخذ الله قوماً بالبأساء التى تصيب الإنسان فى غير ذاته : مال يضيع, ولد يفقد, بيت يهدم, أو يأخذهم بالضراء وهى الأشياء التى تصيب الأنسان فى ذاته, فذلك ليسلب منهم أبهه الكبرياء, فلا يجدون ملجأ إلا أن يخضعوا لرب الأرض والسماء, ولكى يتضرعوا إلى الله, ومعنى التضرع – كما عرفنا – إظهار الذله لله. واذا لم يُجدِ وينفع فيهم هذا,وقالوا :لا , إن البأساء والضراء مجرد سنن كونيه, وقد تأتى للناس فى أى زمان أو مكان. نقول لهم: صحيح البأساء والضراء سنن كونيه من مكون أعلى من الكون, فإذا لم يرتدعوا بالبأساء والضراء ويرجعوا إلى ربهم ويتوبوا إليه يبتليهم الله بالنعماء, فهو القائل:

 

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) سورة الانعام

 

فالمجتمعاتحين تبتعد عن منهج السماء نجد الحق ينتقم منهم انتقاماً يناسب جرمهم, ولو أنه أخذهم على حالهم المتواضع فلن تكون الضربه قويه, لذلك يوسع عليهم فى كل شئ حتى إذا ما سلب منهم وأخذهم بغته وفجأه تكون الضربه قويه قاصمه ويصيبهم اليأس والحسرة. وقديماً قلنا تعبيراً ريفياً هو: إن الإنسان إن أراد أن يوقع بأخر لا يوقعه من على حصيرة, إنما يوقعه من مكان عال. وربنا يعطى للمنكرين الكثير ويمدهم فى طغيانهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر , ولو بواسطه حارسه.

 

(ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)

سورة الاعراف

 

وقد يضبط الانسان أشياء تُعْلمه بواقع الشر فى مستقبله. مثلها مثل (الرادار) الذى يكشف لنا أى خطر فى الأفق قبل أن تأتى, وحين يقول سبحانه :( وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ )أى ليس عندهم حساب ولا مقاييس تدلهم على أن شراً يحيق بهم. وأنت لو نظرت إلى هذه المسأله لوجدت الإنسان بعقله وفكره الذى لم يسلك فيه طريق الله بل سلك فيه السبيل غير الممنهج بمنهج الله, وبينما لا يلتفت الانسان الى مجئ الكارثه, ويتسائل : لماذا تجرى هذه الحيوانات؟! إنه فى هذه الحالة يكون أقل من الحيوانات, لأن الحيوان من واقع الأحداث فى بلد تحدث فيه الزلازل يكون أول خارج من منطقه الزلزال,إن الله قد سلبه هذه المعرفه حتى تتمكن منه الضربة,إننا نجد الحمار يجرى ليغادر مكان الزلزال , بينما يظل الإنسان واقفاً حتى يحيق به الخطر,فأى إحساس وى استشعار عند الحيوان؟ إنه استشعار غريزى خلقه ربه فيه, لأنه سلب منه التعقل فأعطاه حكمه الغرائز. وما دام الحق قد نبه الإنسان بالبأساء فلم يلتفت, وبالضراء فلم ينتبه إلى المنهج, لذلك يأتى له الحق ويمد له بالطغيان. لكن أهل الإيمان أمرهم يختلف , فيقول سبحانه :

 

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ

بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا

فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)