أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا

أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ

عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)

 

و((يهد)) أى يبين للذين يرثون الأرض طريق الخير,ومعنى (يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا) أن الأرض كانت مملوكة لسواهم, وهم جاءوا عقبهم . وحين يستقرئ الإنسان الوجود الحضارى فى الكون يجد أنكل حضارة جاءت على أنقاض حضارة , وما فى يدك وملكك جاء على أنقاض ملك غيرك, والذى يأتى على انقاض الغير يسمى إرثاً , وما دمتم قد رأيتم أنكم ورثتم عن غيركم كان يجب أن يظل فى بالكم أن غيركم سيرثكم. إذن فالمسأله دُوَل, ويجب ألا يغتر الإنسان بموقع أو بمنصب,ونحن نرى فى حياتنا من يحتل منصباً كبيراً , ثم يُقال ويُعزل عن منصبه, أو يُحال إلى التقاعد ويأتى آخر من بعده. ولذلك يقال: لو دامت لغيرك ما وصلت إليك. فإن كنت صاحب مكانه وقد أحسنت الدخول إلى وضعك وإلى جاهك, وإلى منصبك, فيجب أن تفطن وتتذكر الخروج قبل الدخول إلى هذا المنصب حتى لا يعز عليك فراقه يوماً. واحذر أن تحسن الدخول فى أمر قبل أن تحاول أن تحسن الخروج منه.وأستمع إلى قول الشاعر فى هذا المعنى :

إن الأمــيــر هــو الــذىيـُمسى أميـــــراً يـــــوم عــــزلـهْ

إن زال ســلـطان الإمـارة لـــم يــزل ســلـطانُ فـضــــلـِهْ

وحين يقول الحق : (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ)

نلحظ أنه سبحانه لم يجعل المهديين هنا على وضع المفعول, فلم يقل :أو لم يهد الذين, بل قال)(يهد للذين)) , فما الحكمه فى ذلك؟ .نعرف أن ((الهداية)) هى الدلاله على الطريق الموصل للغايه, وقد تعود فائدته عليك, أى أنك قد هديت غيرك لصالحك. وقد تكون الهداية وهى الدلاله على فعل الخير لأمر يعود على الذى هَدَى وعلى المَهْدِىً معاً ,لكن إذا كانت الهدايه لا تعود إلا لك انت , ولا تعود على من هداك, أتشك فى هدايته لك؟ لا , إن من حقك أن تشك فى الهداية إذا كانت هذا الأمر يعودعلى من هَدَى, أو يعود أمرها على الأثنين, ففى ذلك شبهه لمصلحه, لكن إذا كان الأمر لا يعود على من يَهْدِى ويعود كله لمن يُهْدَى فليس فى ذلك أدنى شك.

ولذلك يقول الحق سبحانه فى حديثه القدسى :

 

(( ... يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئاً, يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئاً, يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا فى صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى إلا كما ينقص المَخْيط إذا أُدْخِل البحر))

 

رواه مسلم - واللفظ له - ورواه الترمذى

 

إذن فحين يهديكم الحق إلى الصراط المستقيم فما الذى يعود عليه سبحانه وتعالى من صفات الكمال بهذا العمل؟ لقد خلقكم بصفات الكمال فية, فلن ينشئ خلقه لكم صفه من صفات الكمال زائدة على ما هو له, وهكذا نرى أن كل هداية راجعة إلى المَهْدِىً . وبذلك يتأكد قوله: (يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) ما هو مصلحتهم.

 

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)

 

   سورة الاعراف

 

والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن المشيئه يقول ( لو نشاء ) ويحدد المشيئه وهو قوله: (أصبناهم بذنوبهم) , وهكذا نعلم أن المشيئه ليست مشيئة ربنا فقط لا, بل هى أيضا مشيئه العباد الذين ميزهم بالأختيار, وسبحانه يقول :

 

 (أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا)

من الآيه 31 سورة الرعد

 

وما الذى يمنعه سبحانه أن يشاء هداية الناس جميعاً؟ .لا أحد يمنع الخالق, ولكنه سبحانه خلق خلقاً مهديين بطبيعتهم, لا قدرة لهم على المعصيه وهم الملائكة, وجعل سائر أجناس الأرض مسخرة مسبحة, وذلك يثبت صفه القدرة, فلا يستطيع أحد أن يخرج عن مراد الله, ولكن هذا لا يعطى صفه المحبوبية للمشرع الأعلى, ثم إنه – سبحانه – خلق خلقاً لهم أختيار فى أن يطيعوا وأن يعصوا. فالمخلوق الذى أختصه سبحانه بقدرة الأختيار فى أن يؤمن وأن يكفر, وأن يطيع أو يعصى, ثم آمن يكون إيمانه دليلا على إثبات صفات المحبوبية للإله.

إذن المقهورون على الفعل أثبتوا القدرة, والمختارون الفعل أثبتوا المحبوبية للمشروع الأعلى, ويتابع سبحانه فى الآيه نفسها:

 

(أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)

من الآيه (100) سورة الاعراف

 

 ونلحظ أن الحق لم يقل أن لو نشاء أصبناهم لذنوبهم وذلك رحمه منه, بل جعل العقاب بالذنوب التى يختارونها هم, وكذلك جعل الطبع على القلوب نتيجة للأختيار. وسبق أن تكلمنا فى أول سورة البقرة عن كلمه ((الطبع)), وهو الختم : (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) من الآيه 7 سورة البقرة

لأت القلوب وعاء اليقين الإيمانى, فحين يملأ إنسان وعاء اليقين بالكفر , فهذا يعنى أنه عشق الكفر وجعله عقيده عنده, لذلك يساعده الله على مراده , وكأنه يقول له : أنا سأكون على مرادك, ولذلك أطبع على قلبك فلا يخرج ما فيه من الكفر, ولا يدخل فيه ما خرج منه من الإيمان الفطرى الذى خلق الله الناس عليه. لأنك أنت قد سَبًقت ووضعت فى قلبك قضيه يقينية على غير إيمان , لآن أصول الإيمان أن تُخرِج مافى قلبك ما أى أعتقاد, ثم تستقبل الإيمان بالله, ولكنك تستقبل الكفر وترجحه على الإيمان.

إن الله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين فى جوفه: قلب يؤمن, وقلب لا يؤمن, بل جعل للإنسان قلباً واحداً , والقلب الواحد حيز, والحيز- كما قلنا – لا تداخل للمحيز فيه , فحين نأتى بزجاجه فارغه ونقول :إنها ((فارغه)) فالذى يدل على كذب هذه الكلمه أننا حين نضع فيها المياة تخرج منها فقاقيع الهواء, وخروج فقاقيع الهواء هو الذى يسمح بدخول المياة فيها, لأن الزجاجه ليست فارغه, بل يخيل لنا ذلك, لأن الهواء غير مرئى لنا ولو كانت الزجاجه مفرغه من الهواء دون إعداد دقيق فى صناعتها لتلك المهمه لكان من الحتمى أن تنكسر, والقلب كذلك له حيز إن دخل فية الإيمان يالله لا يسع الكفر, وإن دخل فيه الكفر – والعياذ بالله لا يسع الإيمان, والعاقل هو من يطرح القضيتين خارج القلب, ثم يدرس هذه ويدرس تلك, وما يراه مفيداً لحياته ولآخرته يسمح لة بالدخول. أما أن تناقش قضيه الإيمان بيقين قلبى بالكفر فهذه عملية لا تؤدى الى نتيجه.

 

( أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)        

  سورة الاعراف

 

أى أو لم يتبين للذين يُستخلفون فى الأرض من بعد إهلاك الذين سبقوهم بما فعلوا من المعاصى والكفر فسار هؤلاء القوم سيرة من سبقهم وعملوا أعمالهم وعصوا ربهم أن لو نشاء فعلنا بهم من العذاب كما فعلنا بمن قبلهم وقوله : ( فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ )أى السماع المؤدى إلى الاعتبار والاتعاظ فكأنهم لم يسمعوا.

ويقول الحق بعد ذلك :

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ  رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ

 فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوابِمَا  كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ

 عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)