ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا

 بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)

 

وبعد أن تكلم الحق عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وما دار بينهموبين اقوامهم, وكيف أهلك سبحانه المكذبين وأنجى المؤمنين, أراد أن يأتى بتاريخ رسول من أولى العزم من الرسل, اى من الذين تعرضوا فى رسالاتهم لأشياء لا يتحملها إلاجَلد قوى. وأظن أنكم تعلمون أن علاج موسى لليهود أخذ قسطاً وافراً فى القرآن , بل أن موسى مع قومه هى أطول قصص القرآن , لأن انحرافاتهم ونزواتهم وتمردهم على أنبيائهم كانت كثيرة, وكان أنبياؤهم كثيرين , ولذلك فهم يفتخرون بأنهم كثيروا الأنبياء, وقالوا: نحن أكثر الأمم أنبياء. وقلنا لهم : إن كثرة أنبيائكم تدل على تأصل دائكم , لأن الأطباء لا يكثرون إلا حين يصبح علاج المريض أمراً شاقاً. إذن فكثرة أنبيائكم , دليل على أن رسولاً واحداً لا يكفيكم, بل لابد من أنبياء كثيرين.

وقوله الحق: (ثم بعثنا من بعدهم موسى)

وكلمه ((بعث))- كما نفهمها – توحى وتشير إلى أنه سبحانه قد أرسل موسى رسولا إلى فرعون , واختيرت كلمة ((بعث )) للرسالات لأن البعث يقتضى أن شيئاً كان موجوداً ثم أنطمرثم بعثه الحق من جديد, والإيمان يتمثل فى عهد لفطرة الأولى الذى كان من آدم, لأن الله خلقه بيديه خلقاً مباشراً وكلفه تكليفاً مباشراً, فنقل آدم الصورة للذريه, وهذه الصورة الأصليه هى التى تضم حقائق الإيمان التى كانت لآدم, وحين يبعث الله رسولا جديداً, فهو لا ينشئ عقيدة جديدة, بل يحيى ما كان موجوداً وانطمر, وحين يطم الفساد يبعث الله الرسول , فكأن الحق سبحانه وتعالى حينما كلف آدم التكليف الأول طلب منه أن ينقل هذا التكليف الى ذريته, ولو أن الأنسان أخذ تكاليف الدين كما أخذ مقومات الحياة ممن سبقه لظل الإيمان مسأله رتيبه فى البشر.

إننا نأخذ الأشياء التى أورثها لنا أجدادنا وتنفعنا فى أمور الدنيا نحتفظ بها ونحرص عليها, فلماذا للم نأخذ الدين منهم؟ لأن الدين يحجر على حرية الحركة ويضعها فى إطارها الصحيح . والإنسان يريد أن ينفلت من تقييد حرية الحركه, وحين يقول ربنا مرة إنه:((أرسل)) الرسل, ومرة أخرى إنه قد بعثهم, فهذا يدل على أنه لم يجئ بشئ جديد , ولكنه جاء بشئ كان المفروض أن يظل فيكم كما ظلت فيكم الأشياء التى وَرثها لكم أسلافكم وتنتفعون بها, مثال ذلك : نحن ننتفع برغيف الخبز وننتفع بخياطة الأبرة فلماذا أنتفعنا بهذه الأشياء المادية ونسينا الأشياء المنهجية؟ لأن الأشياء المادية قد تعين الإنسان على شهواته, أما قيم الدين فهى تحارب الشهوات   

 

(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ)

من الآيه 103 سورة الأعراف

 

والآيات – كما نعلم – جمع آيه, وهى الأمر العجيب الذى يقف العقل عنده مشدوهاً. وتُطلق الآيات ثلاث إطلاقات , فهى تطلق على الآيات القرآنيه لأنها عجيبه أسلوبياً معبرة عن كل كمال يوجد فى الوجود إلى أن تقوم الساعه , وكل قارئ لها يأخذ منها على قدر ذهنه وقدر فهمه. والآيات الكونية موجودة فى خلق الأرض والسماء وغير ذلك , وكذلك تطلق الآيات على المعجزات الدالة على صدق الأنبياء . والبعث يقتضى مبعوثا وهو موسى , ويقتضى باعثاً وهو الله, ومبعوثاً اليهم وهم قوم فرعون , ومبعوثاً به وهو المنهج. ولآيات التى بعث الله بها موسى هى أدله صدق النبوة, وهى أيضا الكلمات المعبرة عن المنهج ليشاهدها ويسمع لها فرعون وملؤه, والملأ – كما عرفنا من قبل – هم القوم الذين يملأون العيون هيبة, فلا يقال للناس الذين لا يلتفت إليهم أحد إنهم ملأ , أو هم الأناس الذين يملأون صدور المحالس, أى الأشراف والسادة .ولماذا حدد الحق هناأن موسى قد بعث لفرعون وملئه فقط؟ لأن الباقين من أتباعهم تكون هدايتهم سهلة إن أهتدى الكبار, والغالب والعادة أن الذى يقف أمام منهج الخير هم المنتفعون بالشر, وهم القادة أو من حولهم, ولا يرغبون فى منهج الخير لأنه يصادم أغراضهم , وأهوائهم, ولذلك يحاربونه , أما بقيه العامة فهم المغلوبون على أمرهم, وساعه يرون أن أحداً قد جاء ووقف فى وجه الذين عضوهم بمظالمهم وعضوهم بطغيانهم , تصبح قلوبهم مع هذا المنقذ!

 

(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ)

من الآيه 103 سورة الأعراف

 

وإن كانت الآيات هى الكلمات المؤدية للمنهج الموجودة فى التورا’, أو كانت الآيات هى المعجزات التى تدل على صدق موسى فقد كان ذلك يقتضى إيمانهم. ونعلم أن القرآن قد عدد الآيات النعجزات التى أرسلها الحق مع موسى:

 

 (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)

من الآية  101 سورة الإسراء

 

ومن هذه الآيات العصا, واليد يدخلها فى الجيب أو تحت جناحه وإبطه وتخرج بيضاء من غير سوء أو علة , وأخذ آل فرعون بالسنين , وكلمه ((سنين)) تأتى للجدب الشديد الذى يستمر لفترة من الزمن بحيث يلفت الناس إلى حدث فى زمان, ولذلك نقول: كانت سنه عصيبه, لأن السنه عضة من الأحداث, تهدم ترف الحياة, ثم تأتى لهم بما يهدم مقومات الحياة, وأولها الطعام والشراب فيصيبهم بنقص الثمرات, وهو الجدب والقحط, وسمى الجدب سنه, وجمعه سنين, لأنه شئ يؤرخ به, فماذا كان أستقبال فرعون وملئه  للآيات التى مع موسى عليه السلام؟ يقول الحق ( فظلموا بها) وهل كانت الآيات أداة للظلم أو ظلموا بسببها لأنهم رفضوها كمنهج حياتى؟

لقد ظلموا بها لأنهم رفضوا اتباع المنهج الحق, وظلوا على فسادهم, والمفسدون- كما نعلم – هم الذين يعمدون  إلى الصالح فى ذاتة فيفسدونه, برغم أن المطلوب من الأنسان أن يستقبل الوجود أستقبال من يرى أن هناك أشياء فوق أختياراته ومراداته , وأشياء بأختيارة ومراداته, فإذا نظر الإنسان فى الأشياء التى بها مقومات الحياة, مما لا يدخل فى اختيارة يجدها على منتهى الأستقامه.

إننا نجد الإنسان لا يتحكم فى حركه الشمس أو حركة القمر , أو النجوم أو الريح أو المطر, فهذه الكائنات مستقيمه كما يريدها الله, ولا يأتى الفساد إلا فى الأمر الذى للإنسان مدخل فيه, والناس لا تشكو من أزمه هواء- على سبيل المثال – لأنه لا دخل فى حركه الهواء لأحد, لكنهم شَكَوا من أزمه طعام لأن للبشر فيه دخلاً , ونجد شكواهم من أزمة المياه أقل, لأن مدخل الأنسان على الماء قليل.

إنه سبحانه وتعالى يجعل الأمر الذى يدير حركتك الوقودية لك فيه بعض من الدخل, فيجعل من جسمك- على سبيل المثال- مخزناً للدهون ليعطيك لحظه الجوع ما كنزته فيه من طاقه. ومن العجيب أن الدهون هذه هى مادة واحدة وساعة نحتاج إلى التغذية منها تتحول المادة الواحدة إلى المواد الأخرى التى نحتاج إليها.

تحتاج مثلا إلى زلال , فيتحول الدهن إلى زلال, وتحتاج إلى كربون, يعطى لك الدهن الكربون, تحتاج إلى فوسفور يعطيك فوسفوراً, تحتاج إلى مغنسيوم يعطيك الدهن المغنسيوم, وهكذا فإذا كنا نصبر على الطعام بقدر المخزون فى أجسامنا, ونصبر على الماء أيضاً بقدر المخزون فى هذه الأجساد , فنحن لا نصبر على الهواء لأن التنفس شهيق وزفير, ولو أن إنسانا ملك الهواء يعطيك إياه لحظه الرضا, ويمنعه عنك لحظه الغضب, لمت قبل أن يرضى عنك, لكن إن منع عنك الماء فترة فقد يحن قلب عدوك أو يأتى لك أحد بالماء أو قد تسعى أنت بحيله ما لتصل إليه.

إذن فالأمر الذى لا دخل للإنسان فية نجده على منتهى الاستقامه, ولا يأتى الفساد إلا من الأمر الذى للإنسان فيه دخل.

 

 ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)

                                                                                                             سورة الاعراف  

أى أن آخر الأمر سيعاقب الله المفسدين.

وأراد سبحانه أن يذكر سلسله القصة لا من بدء سلسلتها, بل يبدأ من نهايتها, فسبحانه لا يدرس لنا التاريخ, ولكن يضع أمامنا العظه, واللقطة التى يريدها فى هذا السياق, ولذلك لم يتكلم سبحانه فى هذه السورة عن ميلاد موسى وكيف أوحى لأمه أن تلقيه فى البحر, ولم ترد حادث ذهابه إلى مدين ومقابلته لسيدنا شعيب, لكنه هنا يتكلم سبحانه عن مهمة سيدنا موسى مع فرعون.

ويقول سبحانه:

وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ

رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)