فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)

وهذا الإلقاء كان له سابق تجربة أخرى حينما خرج مع أهله من مدين ورأى ناراً وبعد ذلك قال لأهله:

 

(امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا) 

 من الآيه 10 سورة طه

 

ثم سمع خطاباً :

 

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) 

 

                                                                                                                           سورة طه

 

وحين يقال له : ( وما تلك بيمينك يا موسى), كان يكفى أن يقول فى الجواب: عصاى, ولا داعى أن يقول )هى)

ولا داعى أن يشرح ويقول : إنه يتوكأ عليها وأن له فيها مآرب أخرى , لأن الحق لم يسأله ماذا تفعل بعصاك, إذن فجواب موسى قد جاوز فى الخطاب قدر المطلوب , ويظن البعض أنه كان من الواجب أن يعطى الجواب على قدر السؤال. لكن من يقول ذلك ينسى أنه لا يوجد من يزهد فى الأنس بخطاب الله. وحين قال موسى عليه السلام:

 

(قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي)

 من الآيه 18 سورة طه

ولقد شعر موسى عليه السلام وأستدرك هيبه المخاطب فكان تهافته على الخطاب حباً فى الله, لكنه حين شعر أنه قارب أن يتجاوز قال:(ولى فيها مآرب أخرى) كان من الممكن أن يقول استعمالات كثيره للعصا. إذن  فللعصا أكثر من إلقاء, إلقاء الدربة والتمرين على لقاء فرعون حين أمره الحق:

 

قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)    

     سورة طه

 

فماذا حدث؟ قال له الله:

 

قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)    

  سورة طه

 

فساعة خاف, دل على أن ما حدث للعصا ليس من قبيل السحر, لأن الساحر حين يلقى عصاه يرى ذلك عصا أو حبلاً, بينما يرى ذلك غيرُه حيه, ولذلك يقول الحق عن السحرة:

 

(سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ)

  من الآيه 116 سورة الأعراف

 

وهذا يدل على أن حقيقه الشئ فى السحر تظل كما هى فى نظر الساحر, ولكن موسى أوجس فى نفسه خيفه, فهذا يدل على أن العصا انتقلت من طبيعتها الخشبيه وصارت حيه.

وكان من الممكن أن تورق العصا وتخضر على الرغم من أنها كانت غصناً يابساً. ولو حدث ذلك فسيكون معجزة أيضاً, ولكن نقلها الله نقلتين:نقلها من الجمادية, وتعدى بها مرحلة النباتية إلى مرحلة الحيوانية.

وكأن الحق العليم أزلًا يرد على من أراد اللغط فى مسألة إلقاء العصا, وقد ظن بعض الجاهلين أن ذلك تكرار فى الكلام فى قصة واحدة. ولم يلحظوا أن جهة الإلقاء للعصا كانت منفكة, ففى القرآن ثلاثة إلقاءات للعصا: إلقاء التدريب حينما أصطفى الله موسى رسولاً وأعلمه بذلك فى طور سيناء:

 

(إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي)

من الآية 14 سورة طه

 

 

 

وبعد ذلك قال له :

 

(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ)  

 سورة طه

 

وإلقاء التدريب على المهمة هدفه طمأنه موسى, حتى إذا ما باشرها أمام فرعون باشرها وهو على يقين أن العصا ستستجيب له قتنقلب حيه بمجرد إلقائها, ولو أن الله قال له خبراً(( إذا ذهبت إلى فرعون فألق العصا فستنقلب حيه)), فقد لا يطمئن قلبه إلى هذا الأمر. قأراد الله أن يدربه عليها تدريباً واقعياً , ليعلم أن العصا ستستجيب له حين يلقيها فتنقلب حية, وكان ذلك أول إلقاء لها, أم الألقاء الثانى فكان ساعه أن جاء لفرعون للإعلام بمهمته أنه رسول رب العالمين, وإعلامه بالبينه, وهو ما نحن بصدده الآن فى هذه الآيه التى نتكلم بخواطرنا الإيمانية فيها.

ثم هناك إلقاء ثالث وهو إلقاء التحدى للسحرة, ولأن لكل إلقاء موقعاً فلا تقل أبداً أن ذلك تكرار. وإنما هو تأسيس لتعدد المواقف والملابسات, فلكل موقف ما يتطلبه , فلا تغنى لقطة هنا عن لقطه هناك.

فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)  

 سورة الأعراف

 

 ومرة يقول عن العصا : (كأنها الجان).

ويقول المشككون فى كلام الله من المستشرقين: كيف يقول مرة إنها ثعبان مبين. ثم مره أخرى يقول )فإذا هى حية تسعى ) , ومرة ثالثة يقول: (كأنها جان) . ونقول : إن هناك فارقاً بين مختلفات تتناقض, ومختلفات تتكامل, فهى ثعبان مرة, وهى حية مرة ثانية, وهى جان, لأن الثعبان هو الطويل الخفيف الحركه, والحية هى الكتله المخيفه بشكلها وهى متجمعة, والجان هو الحية المرعبه الشكل. فكأنها تمثلت فى كل مرة بمثال يرعب من  يراه, وكل مرة لها شكل, فهى مرة ثعبان, ومرة حية, وثالثه جان, أو تكون ثعباناً عند من يخيفه الثعبان, وتكون حية عند من تخيفه الحية, وتكون جاناً عند من يخيفه الجان, ولذلك تجد أن إشاعه الإبهام هو عين البيان للمبهم.

كثال ذلك إبهام الحق لأمر الموت, فلا يحكمه سن, ولا يحكمه سبب, ولا يحكمه زمان, وفى هذا إبهام لزمانه وإبهام لسببه مما يجعله بياناً شائعاً تستقبله بأى سبب فى أى زمان أو فى أى مكان, وهكذا يأتى الإبهام هنا لكى يعطينا الصور المتكامله, وقال بعض المستشرقين: إن المسلمين يستقبلون القرآن بالرهبة وبالآنبهار, ولا يحركون عقولهم لكى يروا المتناقضات فيه, ولكن غير المسلم إن قرأ القرآن يتبين فيه أشياء مختلفه كثيرة, قالوا بالنص (( أنتم تعلمون بقضايا اللغه أن التشبيه إنما يأتى لتُلحِق مجهولاً بمعلوم )) , فيقال: أنت تعرف فلاناً, فتقول : لا والله لا أعرفه. فيقول لك : هو شكل فلان, فى الطول , وفى العرض , وفى الشكل, إذن فقد ألحق مجهولاً بمجهول, إن هذا لا يعطى صورة مثلما تكلم القرآن عن شجرة الزقوم فقال :

 

  إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) 

  سورة الصافات

 

فكيف توجد شجرة فى

 الجحيم، إنها أشياء متناقضة, لأن الشجرة فيها خضرة, وتحتاج إلى رى, ومائية, والجحيم نار وجفاف , ثم إن الشيطان غير معلوم الصورة للبشر, وشجرة الزقوم غير معلومة لأنها ستأتى فى الآخرة, فكيف يشبه الله مجهولاً بمجهول. وإستخدم المستشرقون ذلك كدليل على أن المسلمين يأخذون القرآن بأنبهار ولا يبحثون فيه, ونرد عليهم: أنتم لا تعلمون لغه العرب كملكة, بل عرفتموها صناعة, ولم تتفهموا حقيقة أن القرآن جاء على لغة العرب. وقد تخيلت لغة العرب أشياء رأت فيها البشاعه والقبح, كأن قالوا: (( ومسنونة زرق كأنياب الغول)) , والغول كائن غير موجود, لكنهم تخيلوا الغول المخيف وأن له أنياباً....إلخ.

إذن التشبيه قد يكون للأمر المُتًَخََّيل فى أذهان الناس, والأصل فى التشبيه أن يلحق مجهولاً ليُعلم, وشجرة الزقوم لا نعرفها, ورءوس الشياطين لم نرها, وهكذا ألحق الله مجهولاً بمجهول, ولماذا لم يأت بها فى صورة معلومه؟. لأنه – سبحانه – يريد أن يشيع البيان, ويعمم الفائدة ويرببها, لأن الإخافه تتطلب مخيفاً , والمخيف يختلف بأختلاف اللاائين, فقد يوجد شئ يخيفك, ولكنه لا يخيف غيرك, وقد تستقبح أنت شيئاً , ولكن غيرك لا يستقبحه, ولذلك ضربنا – سابقا – مثلا وقلنا: لو أننا أحضرنا مجموعة من كبار رسامى الكاريكاتور فى العالم , وقلنا لهم أرسموا لنا صورة الشيطان تخيلوا الشيطان وأرسموه , أيتفقون على شكل واحد فيه؟ لا, لأن كل رسام سيرسم الشيطان من وحى ما يخيفه هو, ولقد قال الله فى صورة : ( طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) [الصافات : 65]ملحوظه هامه هذه اللمعلومه غير موجوده بالنص الاصلى للموسوعه

ليتخيل كل سامع ما يخيفه من صورة الشيطان, فتكون الفائدة عامه من التخويف من تلك الشجرة. لكنه لو قالها بصورة واحدة لأخاف قوماً ولم يخف الأخرين. ومثال ذلك أمر عصا موسى, فهى مرة ثعبان, ومرة جان, ومرة حية, وكلها صور لشئ واحد مخيف, ويقول الحق هنا فى سورة الأعراف (فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين). وقوله : (فإذا هى) يوضح الفجائية التى أذهلت فرعون, فقد تحولت العصا إلى ثعبان ضخم فى لمح البصر بمجرد إلقائها, ومن فوائد تدريب سيدنا موسى على إلقاء العصا فى طور سيناء أن موسى لن تأخذه المفاجأه حين يلقيها أمام فرعون, بل ستأخذ المفاجأة فرعون,. كأن التدريب أولاً لإقناع موسى وضمان عدم خوفه فى لحظة التنفيذ, وقد خاف منها موسى لحظه التدريب , لأن العصا صارت ثعباناً وحَية حقيقية, ولو كانت من نوع السحر لظلت عصا فى عين الساحر ولا يخاف منها, إذن خوفه منها إبَّان التدريب دليل على أنها انقلبت حقيقة, لا تخيلاً, وتلك هى مخالفة المعجزة للسحر, فالمعجزة حقيقة والسحر تخييل, وهذا هو الذى سيجعل السحرة يخرون ساجدين لأنهم قد ذُهلوا مما حدث.

 

فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)

   سورة الأعراف

 

و((مبين)) أى بَّين, وواضحة ملامحه المخيفة التى لا تخفى على أحد , ويقدم موسى عليه السلام الآيه الثانية,

فيقول الحق :

وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)