وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ(45)

سورة البقرة

بعد أن بين الحق سبحانه وتعالى أن الإيمان قدوة. وبعد أن لفتنا إلي أن التوراة تطالب اليهود. بأن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام. يطلب الله سبحانه وتعالى الاستعانة بالصبر والصلاة. ومعنى الاستعانة بالصبر أن هناك أحداثا شاقة ستقع وأن المسألة لن تكون سهلة. بل تحتاج إلي جهد. فالصبر معناه حمل النفس على أمر صعب. وهم ماداموا قد تعودوا على شراء آيات الله بثمن قليل .. لأنهم قلبوا الصفقة. فجعلوا آيات الله ثمنا لمتع الدنيا. واشتروا بها متعهم وملذاتهم. وبعد أن تعودوا على الربا وغيره من وسائل الكسب الحرام. لابد أن يستعينوا بالصبر إذا أرادوا العودة إلي طريق الإيمان.
وكما قلنا فإن المسألة ليست بخصوصية الموضوع ولكن بعموم السبب. فأنها موجهة للجميع. فكل مؤمن يدخل منهج الإيمان محتاج إلي الاستعانة بالصبر ليحمل نفسه على مشقة المنهج وتكاليفه. وليمنع نفسه عن الشهوات التي حرمها الله سبحانه وتعالى. والصبر في الآية الكريمة فسره بعض العلماء بأنه الصيام، فكأن الله تعالى يأمرهم أن يجرعوا ويصبروا على ألم الجوع. ومشقة الإيمان والصلاة كما قلنا خشوع وخضوع وذلة لله .. تنهي استكبارهم بأن يؤمنوا بدين لم ينزل على أحد من أحبار اليهود. والحق سبحانه وتعالى يقول: "وأنها لكبيرة إلا على الخاشعين".
ويطلب الحق في قوله: "واستعينوا بالصبر والصلاة" الاستعانة بشيئين هما الصبر والصلاة. وكان سياق الآية يقتضي أن يقال: "وأنهما" لكن القرآن قال: "وأنها لكبيرة" فهل المقصود واحدة منهما. الصلاة فقط. أم الصبر؟ نقول أنه عندما يأتي أمران منضمان إلي بعضهما لا تستقيم الأمور إلا بهما معا يكونان علاجا واحدا .. واقرأ قوله تعالى:

يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ(62)


(سورة التوبة)



فقال يرضوه ولم يقل يرضوها. التفسير السابق نفسه نفهمه: ليس لله حق ولرسوله حق. ولكن الله ورسوله يلتقيان على حق واحد. وكذلك قوله تعالى:


وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً


(من الآية 11 سورة الجمعة)



وكان المفروض أن يقال إليهما. ولكن التجارة واللهو لهما عمل واحد. هو شغل المؤمنين عن العبادة والذكر: "واستعينوا بالصبر والصلاة" لأن العلاج في الصبر مع الصلاة. والصبر كبير أن تتحمله النفس. وكذلك الصلاة. لأنهما يأخذان من حركة حياة الإنسان. والصبر هنا مطلوب ليصبروا على ما يمتنعون عنه من نعيم الدنيا وزخرفها. والصلاة تحارب الاستكبار في النفس. فكأن الوصفة الإيمانية لا تتجزأ. فلا يتم الصبر بلا صلاة، ولا تتقن الصلاة إلا بالصبر.
وقوله تعالى: (إلا على الخاشعين) .. ما معنى الخشوع؟ الخشوع هو الخضوع لمن ترى أنه فوقك بلا منازع. فالناس يتفاوتون في القيم والمواهب. وكل واحد يحاول أن يفاخر بعلوه ومواهبه. ويقول: أنا خير من فلان. أو أنت خير من فلان. إذن فمن الممكن أن يستكبر الإنسان بما عنده. ولكن الإنسان يخضع لمن كانت له حاجة عنده. لأنه لو تكبر عليه أتعبه في دنياه. ولذلك أعطى الله سبحانه وتعالى للناس المواهب على الشيوع والخشوع على الشيوع. فكل إنسان منا محتاج للآخر. هذا خشوع على الشيوع. وكل إنسان منا مميز بما لا يقدر عليه غيره. هذه مواهب على الشيوع. هذا في البشر، أما بالنسبة لله سبحانه فإنه خشوع لمن خلق ووهب وأوجد.
والخشوع يجعل الإنسان يستحضر عظمة الحق سبحانه ويعرف ضآلة قيمته أمام الحق سبحانه وتعالى ومدى عجزه أمام خالق هذا الكون. ويعلم أن كل ما عنده يمكن أن يذهب به الله تعالى في لحظة .. ذلك أننا نعيش في عالم الأغيار. ولذلك فنخضع للذي لا يتغير. لأن كل ما يحصل عليه الإنسان هو من الله وليس من ذاته. والذين يغترون بوجود الأسباب نقول لهم: اعبدوا واخشعوا لواهب الأسباب وخالقها. لأن الأسباب. إنسان يفاخر بقوته. يأتي من هو أقوى منه فيهزمه. إنسان يفاخر بماله. يضيع هذا المال في لحظة .. واقرأ قوله تعالى:

إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140)


(سورة آل عمران)



ولذلك لابد أن نفهم. أن الإنسان الذي يستعلي بالأسباب سيأتي وقت لا تعطيه الأسباب. فالإنسان إذا بلغ في عينه وأعين الناس مرتبة الكمال. اغتر بنفسه. نقول له: لا تغتر بكمالات نفسك. فإن كانت موجودة الآن. فستتغير غدا .. فالخشوع لا يكون إلا لله. والحق سبحانه وتعالى يقول: "وأنها لكبيرة إلا على الخاشعين" من هم الخاشعون؟ الخاشع هو الطائع لله. الممتنع عن المحرمات. الصابر على الأقدار. الذي يعلم يقينا داخل نفسه أن الأمر لله وحده. وليس لأي قوة أخرى .. فيخشع لمن خلقه وخلق هذا الكون له