وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ(61)

سورة البقرة

هذه الآية الكريمة أيضا من آيات التذكير بنعم الله سبحانه وتعالى على موسى وعلى بني إسرائيل .. وكنا قد تعرضنا لمعنى طعام واحد عند ذكر المن والسلوى .. وقلنا أن تكرار نزول المن والسلوى كل يوم جعل الطعام لونا واحدا .. وكلمة واحد هي أول العدد .. فإذا انضم إليه مثله يصير اثنين .. وإذا انضم إليه مثله يصبح ثلاثة .. إذن فأصل العدد هو الواحد .. والواحد يدل على وحدة الفرد ولا يدل على وحدانية .. فإذا قلنا الله واحد فإن ذلك يعني أنه ليس كمثله أحداً لأنك مكون من أجزاء ـ كما أن هناك من يشبهونك .. والشمس في مجموعتنا واحدة ولكنها ليست أحداً لأنها مكونة من أجزاء وتتفاعل .. والله سبحانه وتعالى واحد ليس كمثله شيء .. وأحد ليس مكونا أجزاء .. ولذلك من أسمائه الحسنى الواحد الأحد .. ولا نقول أن الاسم مكرر فهذه تعني الفردية، وهذه تنفي التجزئة.
وقوله تعالى: "لن نصبر على طعام واحد" .. نلاحظ هنا أن الطعام وصف بأنه واحد رغم أنه مكون من صنفين هما المن والسلوى .. ولكنه واحد لرتابة نزوله .. الطعام كان يأتيهم من السماء .. ولكن تعنتهم مع الله جعلهم لا يصبرون عليه فقالوا ما يدرينا لعله لا يأتي .. نريد طعاما نزرعه بأيدينا ويكون طوال الوقت أمام عيوننا .. وكأن هذه المعجزات كلها ليست كافية .. لتعطيهم الثقة في استمرار رزق الله .. إنهم يريدون أن يريدون أن يروا .. ألم يقولوا لموسى: "أرنا الله جهرة" .. ماذا طلبوا؟ .. قالوا: "فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض" .. "ادع لنا ربك" أي أطلب من الله .. ولأن الدعاء لون من الطلب فإنك حين تتوجه إلي الله طالبا أن يعطيك .. فإنك تدعو بذلة الداعي أمام عزة المدعو .. والطلب إن كان من أدنى إلي أعلى قيل دعاء .. ومن مساوٍ إلى مساوٍ قيل طلب .. ومن أعلى إلي أدنى قيل أمر..
لقد طلب بنو إسرائيل من موسى أن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يخرج لهم أطعمة مما تنبت الأرض .. وعددوا ألوان الأطعمة المطلوبة .. وقالوا: "من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها" .. ولكنها كلها أصناف تدل على أن من يأكلها هم من صنف العبيد .. والمعروف أن آل فرعون استعبدوا بني إسرائيل .. ويبدو أن بني إسرائيل أحبوا حياة العبودية واستطعموها .. الحق تبارك وتعالى كان يريد أن يرفع قدرهم فنزل عليهم المن والسلوى .. ولكنهم فضلوا طعام العبيد .. والبقل ليس مقصوداً به البقول فحسب .. ولكنه كل نبات لا ساق له مثل الخس والفجل والكرات والجرجير .. والقثاء هو الفئة صنف من الخيار .. والفوم هو القمح أو الثوم. والعدس والبصل معروفان .. والله سبحانه وتعالى قبل أن يجيبهم أراد أن يؤنبهم: فقال "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير"..
عندما نسمع كلمة استبدال فاعلم أن الباء تدخل على المتروك .. تقول اشتريت الثوب بدرهم .. يكون معنى ذلك إنك أخذت الثوب وتركت الدرهم. قوله تعالى: "الذي هو أدنى بالذي هو خير" .. أي انهم تركوا الذي هم خير وهو المن والسلوى .. وأخذوا الذي هو أدنى .. والدنو هنا لا يعني الدناءة .. لأن ما تنتجه الأرض من نعم الله لا يمكن أن يوصف بالدناءة .. ولكن الله تبارك وتعالى يخلق بالأسباب ويخلق بالأمر المباشر .. وما يخلقه الله بالأمر المباشر منه بكلمة "كن" .. يكون خيرا مما جاء بالأسباب .. لأن الخلق المباشر لا صفة لك فيه .. عطاء خالص من الله .. أما الخالق بالأسباب فقد يكون لك دور فيه .. كأن تحرث الأرض أو تبذر البذور .. ما جاء خالصا من الله بدون أسبابك يقترب من عطاء الآخرة التي يعطي الله فيها بلا أسباب ولكن بكلمة "كن" .. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131)


(سورة طه)



فالله تبارك وتعالى يصف رزق الدنيا بأنه فتنة .. ويصف رزق الآخرة بأنه خير منه .. مع أن رزق الدنيا والآخرة، وكل رزق في هذا الوجود حتى الرزق الحرام هو من الله جل جلاله .. فلا رازق إلا الله ولكن الذي يجعل الرزق حراما هو استعجال الناس عليه فيأخذونه بطريق حرام .. ولو صبروا لجاءهم حلالا .. نقول إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يرزق .. ولكنه سمى رزقا فتنة وسمى رزقا خيرا منه .. ذلك أن الرزق من الله بدون أسباب أعلى وأفضل منزلة من الرزق الذي يتم بالأسباب ..
إذن الحق سبحانه وتعالى حين يقول: "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير" .. يكون المعنى أتستبدلون الذي هو رزق مباشر من الله تبارك وتعالى وهو المن والسلوى يأتيكم "بكن" قريب من رزق الآخرة بما هو أقل منه درجة وهو رزق الأسباب في الدنيا .. ولم يجب بنو إسرائيل على هذا التأنيب .. وقال لهم الحق سبحانه وتعالى: "اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم" .. ولا يقال لهم ذلك إلا لأنهم أصروا على الطلب برغم أن الحق جل جلاله بين لهم أن ما ينزله إليهم خير مما يطلبونه .. نلاحظ هنا أن مصر جاءت منونة .. ولكن كلمة مصر حين ترد في القرآن الكريم لا ترد منونة .. ومن شرف مصر أنها ذكرت اكثر من مرة في القرآن الكريم .. نلاحظ أن مصر حينما يقصد بها وادي النيل لا يأتي أبدا منونة واقرأ قوله تعالى:



تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً


(من الآية 87 سورة يونس)



وقوله جل جلاله:



أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي


(من الآية 51 سورة الزخرف)



وقوله سبحانه:



وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ


(من الآية 21 سورة يوسف)



وقوله تبارك وتعالى:


 ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ


(من الآية 99 سورة يوسف)

 

كلمة مصر ذكرت في الآيات الأربع السابقة بغير تنوين .. ولكن في الآية التي نحن بصددها: "اهبطوا مصراً" بالتنوين .. هل مصر هذه هي مصر الواردة في الآيات المشار إليها؟ .. نقول لا .. لأن الشيء الممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث .. إذا كان لبقعة أو مكان .. مرة تلحظ أنه بقعة فيبقى مؤنثاً .. ومرة تلحظ أنه مكان فيكون مذكرا .. فإن كان بقعةً فهو علم ممنوع من الصرف .. وإن كان مكانا تكون فيه علمية وليس فيه تأنيث .. ومرة تكون هناك علمية وأهمية ولكن الله صرفها في القرآن الكريم .. كلمات نوح ولوط وشعيب ومحمد وهود..
كل هذه الأسماء كان مفروضا أن تمنع من الصرف ولكنها صرفت .. فقيل في القرآن الكريم نوحا ولوط وشعيبا ومحمدا وهودا .. إذن فهل من الممكن أن تكون مصر التي جاءت في قوله تعالى: "اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم" هي مصر التي عاشوا فيها وسط حكم فرعون .. قوله تعالى: "اهبطوا مصرا" من الممكن أن يكون المعنى أي مصر من الأمصار .. ومن الممكن أن تكون مصر التي عاش فيها فرعون .. وكلمة مصر تطلق على كل مكان له مفتي وأمير وقاض .. وهي مأخوذة من الاقتطاع .. لأنه مكان يقطع امتداد الأرض الخلاء .. ولكن الثابت في القرآن الكريم .. أن مصر التي لم تنون هي علم على مصر التي نعيش فيها .. أما مصراً التي خضعت للتنوين فهي تعني كل وادٍ فيه زرع .. وقوله تعالى: "وضربت عليهم الذلة والمسكنة" .. الذلة هي المشقة التي تؤدي إلي الانكسار .. ويمكن أن ترفع عنك بأن تكون في حمى غيرك فيعزك بأن يقول إنك في حماه .. والله سبحانه وتعالى يقول عن بني إسرائيل:

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ


(من الآية 112 سورة آل عمران)



حبل من الله كما حدث عندما عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة .. وعاشوا في حمى العهد .. إذن بحبل من الله أي على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المؤمنين به .. وبحبل من الناس أي في حماية دولة قوية كالولايات المتحدة الأمريكية .. إذا عاهدتهم عزوا وإن تركتهم ذلوا .. وقوله تعالى: "وضربت عليهم الذلة" ضربت أي طبعت طبعة قوية بضربة قوية تجعل الكتابة بارزة على النقود .. ولذلك يقال ضربت في مصر .. أي أعدت بضربة قوية أذلتهم وبقيت بارزة لا يستطيعون محوها .. أما المسكنة فهي انكسار في الهيئة. أهل الكتاب كانوا يدفعون الجزية والجزية كانت تؤخذ من الأغنياء .. وكانوا يلبسون الملابس القذرة .. ويقفون في موقف الذلة والخزي حتى لا يدفعوا الجزية.
وقوله تعالى: "وباءوا بغضب من الله" .. أي غضب الله عليهم بذنوبهم وعصيانهم. حتى أصبح الغضب ـ من كثرة عصيانهم ـ كأنه سمة من سماتهم لماذا؟: "ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق" أي أنهم كانوا يكفرون بالنعم ولا يشكرون .. ويكفرون بالآيات ويشترون بها ثمنا قليلا .. ولم يكتفوا بذلك بل كانوا يقتلون أنبياء الله بغير حق ..
الأنبياء غير الرسل .. والأنبياء أسوة سلوكية ولكنهم لا يأتون بمنهج جديد .. أما الرسل فهم أنبياء بأنهم أسوة سلوكية ورسل لأنهم جاءوا بمنهج جديد .. ولذلك كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. والله سبحانه وتعالى يعصم أنبياءه ورسله من الخطيئة .. ولكنه يعصم رسله من القتل فلا يقدر عليهم أعداؤهم .. فمجيء الأنبياء ضرورة .. لأنهم نماذج سلوكية تسهل على الناس التزامهم بالمنهج، وبنو إسرائيل بعث الله لهم أنبياء ليقتدوا بهم فقتلوهم .. لماذا؟ .. لأنهم فضحوا كذبهم وفسقهم وعدم التزامهم بالمنهج .. ولذلك تجد الكافر والعاصي وغير الملتزم يغار ويكره الملتزم بمنهج الله .. ويحاول إزالته عن طريقه ولو بالقتل .. إذن فغضب الله عليهم من عصيانهم واعتدائهم على الأنبياء وما ارتكبوه من آثام.