وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ(83)

آخذ الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل ثمانية أشياء: الميثاق .. وهو العهد الموثق المربوط ربطا دقيقا وهو عهد الفطرة أو عهد الذر .. مصداقا لقوله تعالى:



وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى


(من الآية 172 سورة الأعراف)



وهناك عهد آخر أخذه سبحانه وتعالى على رسله جميعا .. أن يبشروا برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ويطلبوا من أتباعهم أن يؤمنوا به عند بعثه .. أو ألا يكتموا ما في كتبهم وإلا يغيروه .. والميثاق هو كل شيء فيه تكليف من الله .. ذلك أنك تدخل في عقد إيماني مع الله سبحانه وتعالى بأن يفعل ما يأمر به وتترك ما نهى عنه .. هذا هو الميثاق .. كلمة الميثاق وردت في القرآن الكريم بوصف غليظ .. في علاقة الرجل بالمرأة .. قال سبحانه وتعالى:

وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً(20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً(21)


(سورة النساء)



نقول نعم لأن هذا الميثاق سيحل للمرأة أشياء لا تكون إلا به .. أشياء لا تحل لأبيها أو لأخيها أو أي إنسان عدا زوجها .. والرجل إذا دخل على ابنته وكانت ساقها مكشوفة تسارع بتغطيته .. فإذا دخل عليها زوجها فلا شيء عليها .. إذن هو ميثاق غليظ لأنه دخل مناطق العورة وأباح العورة للزوج والزوجة .. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:

لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ


(من الآية 187 سورة البقرة)



إن كلا منهما يغطي ويخفي ويستر عورة الآخر .. والأب لا يفرح من انتقال ولاية ابنته إلي غيره .. إلا انتقال هذه الولاية لزوجها .. ويشعر بالقلق عندما تكبر الفتاة ولا تتزوج. الحق يقول: "وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله" هذا الميثاق شمل ثلاثة شروط: "لا تعبدون الا الله وحده .. وتؤمنون بالتوراة وبموسى نبيا .. لماذا؟ لأن عبادة الله وحده هي قمة الإيمان .. ولكن لا تحدد أنت منهج عبادته سبحانه .. بل الذي يحدد منهج العبادة هو المعبود وليس العابد .. لابد أن تتخذ المنهج المنزل من الله وهو التوراة وتؤمن به .. ثم بعد ذلك تؤمن بموسى نبياً .. لأنه هو الذي نزلت عليه التوراة .. وهو الذي سيبين لك طريق العبادة الصحيحة. وبدون هذه الشروط الثلاثة لا تستقيم عبادة بني إسرائيل ..
وقوله تعالى: "وبالوالدين إحسانا" لأنهما السبب المباشر في وجودك .. ربياك وأنت صغير، ورعياك، وقوله تعالى: "إحسانا" معناه زيادة على المفروض. لأنك قد تؤدي الشيء بالقدر المفروض منك .. فالذي يؤدي الصلاة مثلا بقدر الغرض يكون قد أدى .. أما الذي يصلي النوافل ويقوم الليل يكون قد دخل في مجال الإحسان .. أي عطاؤه اكثر من المفروض .. والله تبارك وتعالى يقول:

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ(16) كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(19)


(سورة الذاريات)



وهكذا نرى أن الإحسان زيادة على المفروض في الصلاة والتسبيح والصدقة والله تبارك وتعالى يريد منك أن تعطي لوالديك اكثر من المفروض أو من الواجب عليك .. وقوله تعالى: "وذوي القربى" .. يحدد الله لنا فيها المرتبة الثانية بالنسبة للإحسان .. فالله جل جلاله أوصانا أن نحسن لوالدينا ونرعى أقاربنا .. ولو أن كل واحد منا قام بهذه العملية ما وجد محتاج أو فقير أو مسكين في المجتمع .. والله يريد مجتمعا لا فقر فيه ولا حقد .. وهذا لا يتأتى إلا بالتراحم والإحسان للوالدين والأقارب .. فيكون لكل محتاج في المجتمع من يكفله ..ويقول الله سبحانه: "واليتامى" .. واليتيم هو من فقد أباه وهو طفل لم يبلغ مبلغ الرجال .. هذا في الإنسان .. أما في الحيوان فإن اليتيم من فقد أمه .. لأن الأمومة في الحيوان هي الملازمة للطفل، ولأن الأب غير معروف في الحيوان ولكن الأم معروفة .. اليتيم الذي فقد أباه فقد من يعوله ومن يسعى من أجله ومن يدافع عنه .. والله سبحانه وتعالى جعل الأم هي التي تربي وترعى .. والأب يكافح من أجل توفير احتياجات الأسرة .. ولكن الحال انقلب الآن ولذلك يقول شوقي رحمه الله:

ليس اليتيم من انتهى أبواه من إ ن اليتيم هو الذي تلقى له هم الحياة وخلفاه ذليلا أما تخلت أو أباً مشغولا

إن اليتيم يكون منكسرا لأنه فقد والده فأصبح لا نصير له .. فإذا رأينا في المجتمع الإسلامي أن كل يتيم يرعاه رعاية الأب كل رجال المجتمع .. فذلك يجعل الأب لا يخشى أن يترك ابنه بعد وفاته .. إذن فرعاية المجتمع لليتيم تضمن أولا حماية حقه، لأنه إذا كان يتيما وله مال فإن الناس كلهم يطمعون في ماله، لأنه لا يقدر أن يحميه .. هذه واحدة .. والثانية أن هذا التكافل يذهب الحقد من المجتمع ويجعل كل إنسان مطمئنا على أولاده .. وقوله سبحانه وتعالى: "والمساكين" .. في الماضي كنا نقول إن المساكين هم الذين لا يملكون شيئا على الإطلاق ليقيموا به حياتهم .. إلي أن نزلت الآية الكريمة في سورة الكهف:

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ


(من الآية 79 سورة الكهف)



فعرفنا أن المسكين قد يملك .. ولكنه لا يملك ما يكفيه .. وهذا نوع من التكافل الاجتماعي لابد أن يكون موجودا في المجتمع .. حتى يتكافل المجتمع كله .. فأنت إن كنت فقيرا أو مسكينا ويأتيك من رجل غني ما يعينك على حياتك .. فإنك ستتمنى له الخير لأن هذا الخير يصيبك .. ولكن إذا كان هذا الغني لا يعطيك شيئا .. هو يزداد غنى وأنت تزداد فقرا .. تكون النتيجة أن حقده يزداد عليك. ويقول الحق سبحانه وتعالى: "وقولوا للناس حسنا" .. كلمة حسنا بضم الحاء ترد بمعنى حسن بفتح الحاء .. والحسن هو ما حسنه الشرع .. ذلك أن العلماء اختلفوا: هل الحسن هو ما حسنه الشرع أو ما حسنه العقل؟ نقول: ما حسنه العقل مما لم يرد فيه نص من تحسين الشرع .. لأن العقل قد يختلف في الشيء الواحد .. هذا يعتبره حسنا وهذا يعتبره قبيحا .. والله تبارك وتعالى يقول:

ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ


(من الآية 125 سورة النحل)



هذا هو معنى قوله تعالى: "وقولوا للناس حسنا" .. ثم جاء قوله جل جلاله: "وأقيموا الصلاة" وقد تكلمنا عن معنى إقامة الصلاة وما يجعلها مقبولة عند الله. وهناك فرق بين أن تقول صلوا .. وبين أن تقول أقيموا الصلاة .. أقيموا الصلاة معناها صل ولكن صلاة على مستواها الذي يطلب منك .. وإقامة الصلاة كما قلنا هي الركن الذي لا يسقط أبدا عن الإنسان .. ويقول الحق: "وآتوا الزكاة" .. بالنسبة للزكاة عندا يقول الله سبحانه: "وذي القربى واليتامى والمساكين" .. نقول أن الأقارب واليتامى والمساكين لهم حق في الزكاة ماداموا فقراء .. لنحس جميعا أننا نعيش في بيئة إيمانية متكاملة متكافلة .. يحاول كل منا أن يعاون الآخر .. فالزكاة في الأساس تعطي للفقير ولو لم يكن يتيما أو قريبا .. فإن لكل فقير حقوقا ورعاية .. فإذا كان هناك فقراء أقارب أو يتامى يصبح لهم حقان .. حق القريب وحق الفقير ..
وإن كان يتيما فله حق اليتيم وحق الفقير .. بعد أن ذكر الحق سبحانه وتعالى عناصر الميثاق الثمانية .. قال: "ثم توليتم" .. تولى يعني أعرض أو لم يطع أو لم يستمع .. يقول الحق سبحانه: "ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون" .. هذا هو واقع تاريخ بني إسرائيل .. لأن بعضهم تولى ولم يطع الميثاق وبعضهم أطاع .. إن القرآن لم يشن حملة على اليهود، وإنما شن حملة على المخالفين منهم. ولذلك احترم الواقع وقال: "إلا قليلا" .. وهذا يقال عنه بالنسبة للبشر قانون صيانة الاحتمال .. إن الحق جل جلاله يتكلم بإنصاف الخالق للمخلوق .. لذلك لم يقل "ثم توليتم" بل قال إلا قليلا. "توليتم" يعني أعرضتم، ولكن الله تبارك وتعالى يقول: "ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون" نريد أن نأخذ الدقة الأدائية .. إذا أردنا أن نفسر تولي .. فمعناها أعرض أو رفض الأمر .. ولكن الدقة لو نظرنا للقرآن لوجدنا أنه حين يلتقي المؤمن بالكافر في معركة .. فالله سبحانه وتعالى يقول:
 


وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ


(من الآية 16 سورة الأنفال)



إذن فالتولي هو الإعراض .. والحق سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بين لنا أن الإعراض يتم بنوايا مختلفة .. المقاتل يوم الزحف يعرض أو يتولى ليس بنية الهرب من المعركة .. ولكن بنية أن يذهب ليقاتل في مكان آخر أو يعاون إخوانه الذين تكاثر عليهم الأعداء .. هذا إعراض ولكن ليس بنية الهرب من المعركة .. ولكن بنية القتال بشكل أنسب للنصر .. نفرض أن إنسانا مدين لك رأيته وهو قادم في الطريق فتوليت عنه .. أنت لم تعرض عنه كرها .. ولكن رحمة لأنك لا تريد المساس بكرامته .. إذن هناك تول أو إعراض ليس بنية الإعراض. والله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلي أن هؤلاء اليهود تولوا بنية الإعراض، ولم يتولوا بأي نية أخرى .. أي أنهم أعرضوا وهم متعمدون أن يعرضوا .. وليس لهدف آخر.