بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(117)

سورة البقرة

بعد أن بين الله تبارك وتعالى .. أن قولهم اتخذ الله ولدا هو افتراء على الله .. أراد الحق أن يلفتنا إلي بعض من قدراته .. فقال جل جلاله: "بديع السماوات والأرض" .. أي خلق السماوات والأرض وكل ما فيها من خلق على غير مثال سابق .. أي لم يكن هناك سماء أو أرض أو ملائكة أو جن أو إنسان .. ثم جاء الله سبحانه وتعالى وأوجد متشابها لهم في شكل أو حجم أو قدرة .. أي أنه سبحانه لم يلجأ إلي ما نسميه نحن بالقالب. إن الذي يصنع كوب الماء يصنع أولا قالبا يصب فيه خام الزجاج المنصهر .. فتخرج في النهاية أكواب متشابهة .. وكل صناعة لغير الله تتم على أساس صنع القالب أولا ثم بعد ذلك يبدأ الإنتاج .. ولذلك فإن التكلفة الحقيقية هي في إعداد القالب الجيد الذي يعطينا صورة لما نريد .. والذي يخبز رغيفا مثلا قد لا يستخدم قالبا ولكنه يقلد شيئا سبق .. فشكل الرغيف وخامته سبق أن تم وهو يقوم بتقليدهما في كل مرة .. ولكنه لا يستطيع أن يعطي التماثل في الميزان أو الشكل أو الاستدارة .. بل هناك اختلاف في التقليد ولا يجود كمال في الصناعة.
وحين خلق الله جل جلاله الخلق من آدم إلي أن تقوم الساعة .. جعل الخلق متشابهين في كل شيء .. في تكوين الجسم وفي شكله في الرأس والقدمين واليدين والعينين .. وغير ذلك من أعضاء الجسم .. تماثلا دقيقا في الشكل وفي الوظائف .. بحيث يؤدي كل عضو مهمته في الحياة .. ولكن هذا التماثل لم يتم على قالب وإنما تم بكلمة كن .. ورغم التشابه في الخلق فكل منا مختلف عن الآخر اختلافا يجعلك قادرا على تمييزه بالعلم والعين .. فبالعلم كل منا له بصمة إصبع وبصمة صوت يمكن أن يميزها خبراء التسجيل .. وبصمة رائحة قد لا نميزها نحن ولكن تميزها الكلاب المدربة .. فتشم الشيء ثم تسرع فتدلنا على صاحبه ولو كان بين ألف من البشر .. وبصمة شفرة تجعل الجسد يعرف بعضه بعضا .. فإن جئت بخلية من جسد آخر لفظها. وإن جئت بخلية من الجسد نفسه اتحد معها وعالج جراحها.
وإذا كان هذا بعض ما وصل إليه العلم .. فإن هناك الكثير مما قد نصل إليه ليؤكد لنا أنه رغم تشابه بلايين الأشخاص .. فإن لكل واحد ما يميزه وحده ولا يتكرر مع خلق الله كلهم .. وهذا هو الإعجاز في الخلق ودليل على طلاقة قدرة الله في كونه. والله سبحانه وتعالى يعطينا المعنى العام في القرآن الكريم بأن هذا من آياته وأنه لم يحدث مصادفة ولم يأت بطريق غير مخطط بل هو معد بقدرة الله سبحانه .. فيقول جل جلاله:

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ(22)
(سورة الروم)


هذا الاختلاف يمثل لنا طلاقة قدرة الله سبحانه في الخلق على غير مثال .. فكل مخلوق يختلف عمن قبله وعمن بعده وعمن حوله .. مع أنهم في الشكل العام متماثلون .. ولو أنك جمعت الناس كلهم منذ عهد آدم إلي يوم القيامة تجدهم في صورة واحدة .. وكل واحد منهم مختلف عن الآخر .. فلا يوجد بشران من خلق الله كل منهما طبق الأصل من الآخر .. هذه دقة الصنع وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: "بديع" .. والدقة تعطي الحكمة .. والإبراز في صور متعددة يعطي القدرة .. ولذلك بعد أن نموت وتتبعثر عناصرنا في التراب يجمعنا الله يوم القيامة .. والإعجاز في هذا الجمع هو أن كل إنسان سيبعث من عناصره نفسها وصورته نفسها وهيئته نفسها التي كان عليها في الدنيا. ولذلك قال الحق سبحانه:

قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ(4)
(سورة ق)


إذن الله سبحانه وتعالى بطلاقة قدرته في الإيجاد قد خلقنا .. وبطلاقة قدرته في إعادة الخلق يحيينا بعد الموت .. بشكلنا ولحمنا وصفاتنا وكل ذرة فينا .. هل هناك دقة بعد ذلك؟. لو أننا أتينا بأدق الصناع وأمهرهم وقلنا له: اصنع لنا شيئا تجيده. فلما صنعه قلنا له: اصنع مثله. إنه لا يمكن أن يصنع نموذجا مثله بالمواصفات نفسها؛ لأنه يفتقد المقاييس الدقيقة التي تمده بالمواصفات نفسها التي صنعها. إنه يستطيع أن يعطينا نموذجا متشابها ولكن ليس مثل ما صنع تماما. لكن الله سبحانه وتعالى يتوفى خلقه وساعة القيامة أو ساعة بعثهم يعيدهم بمكوناتهم نفسها التي كانوا عليها دون زيادة أو نقص. وذلك لأنه الله جل جلاله لا يخلق وفق قوالب معينة، وإنما يقول للشيء: كن فيكون.
تقول الآية الكريمة: "بديع السماوات والأرض إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون". "كن" وردت كثيرا في القرآن الكريم .. وفي اللغة شيء يسمى المشترك اللفظ يكون واحدا ومعانيه تختلف حسب السياق .. فمثلا كلمة قضى لها معاني متعددة ولها معنى يجمع كل معانيها .. مرة يأتي بها الحق بمعنى فرغ أو انتهى .. في قوله تعالى:

فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً
(من الآية 200 سورة البقرة)


ومعناها إذا انتهيتم من مناسك الحج .. ومرة يقول سبحانه:

فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
(من الآية 72 سورة طه)


والمعنى افعل ما تريد .. وفي آية أخرى يقول الله تعالى:

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
(من الآية 36 سورة الأحزاب)


والمعنى أنه إذا قال الله شيئا لا يترك للمؤمنين حق الاختيار .. ومرة يصور الله جل جلاله الكفار في الآخرة وهم في النار يريدون أن يستريحوا من العذاب بالموت: واقرأ قوله سبحانه:

وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ(77)
(سورة الزخرف)


ليقض علينا هنا معناها يميتنا .. ومعنى آخر في قوله تعالى:

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ
(من الآية 22 سورة إبراهيم)


أي لما انتهى الأمر ووقع الجزاء .. وفي موقع آخر قوله سبحانه:

فَلَمَّا قَضَى مُوسَىالْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ
(من الآية 29 سورة القصص)


قضى الأجل هنا بمعنى أتم الأجل وفي قوله تعالى:

وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
(من الآية 54 سورة يونس)


أي حكم وفصل بينهم .. وقوله جل جلاله:

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
(من الآية 4 سورة الإسراء)


بمعنى أعلمنا بني إسرائيل في كتابهم .. إذن "قضى" لها معان متعددة يحددها السياق .. ولكن هناك معنى تلتقي فيه كل المعاني .. وهو قضى أي حكم وهذا هو المعنى الأم. إذن معنى قوله تعالى: "إذا قضى أمرا" .. أي إذا حكم بحكم فإنه يكون على أننا يجب أن نلاحظ قول الحق: "وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن" .. معنى يقول له أن الأمر موجود عنده .. موجود في علمه .. ولكنه لم يصل إلي علمنا .. أي أنه ليس أمرا جديدا .. لأنه مادام الله سبحانه وتعالى قال: "يقول له" .. كأنه جل جلاله يخاطب موجودا .. ولكن هذا الموجود ليس في علمنا ولا نعلم عنه شيئا .. وإنما هو موجود في علم الله سبحانه وتعالى .. ولذلك قيل أن لله أموراً يبديها ولا يبتديها .. إنها موجودة عنده لأن الأقلام رفعت، والصحف جفت .. ولكنه يبديها لنا نحن الذين لا نعلمها فنعلمها.