سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(142)

سورة البقرة

هذه الآية نزلت لتصفي مسألة توجه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلي الكعبة بدلا من بيت المقدس .. وهذا أول نسخ في القرآن الكريم .. يريد الله سبحانه وتعالى أن يعطيه العناية اللائقة؛ لأنه سيكون مثار تشكيك وجدل عنيف من كل من يعادي الإسلام؛ فكفار قريش سيأخذون منه ذريعة للتشكيك وكذلك المنافقون واليهود. الله تبارك وتعالى يريد أن يحدد المسألة قبل أن تتم هذه التشكيكات .. فيقول جل جلاله: "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" .. حرف السين هنا يؤكد إنهم لم يقولوا بعد .. ولذلك قال سبحانه: "سيقول السفهاء" فقبل أن يتم تحويل القبلة قال الحق تعالى: إن هذه العملية ستحدث هزة عنيفة يستغلها المشككون.
وبرغم أن الله سبحانه وتعالى قال: "سيقولون السفهاء" .. أي أنهم لم يقولوها إلا بعد أن نزلت هذه الآية .. مما يدل على أنهم سفهاء حقا؛ لأن الله جل جلاله أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم في قرآن يتلى ويصلى به ولا يتغير ولا يتبدل إلي يوم القيامة .. قال: "سيقول السفهاء من الناس" .. فلو أنهم امتنعوا عن القول ولم يعلقوا على تحويل القبلة لكان ذلك تشكيكا في القرآن الكريم .. لأنهم في هذه الحالة كانوا يستطيعون أن يقولوا: إن قرآنا أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتغير ولا يتبدل إلي يوم القيامة .. قال: "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم" .. ولم يقل أحد شيئا ..
ولكن لأنهم سفهاء فعلا .. والسفه جهل وحمق وطيش قالوها .. فكانوا وهم الكافرون بالقرآن الذين يريدون هدم هذا الدين من المثبتين للإيمان الذين تشهد أعمالهم بصدق القرآن. لأن الله سبحانه قال: "سيقول السفهاء" وهم قالوا فعلا .. ولقد قال كفار مكة عن الكعبة إنها بيتنا وبيت آبائنا وليست بيت الله .. فصرف الله ورسوله في أول الإسلام ووجهه إلي بيت المقدس .. وعندئذ قال اليهود: يسفه ديننا ويتبع قبلتنا .. والله سبحانه وتعالى أراد أن يحتوي الإسلام كل دين قبله فتكون القداسة للكل .. ولذلك أسرى برسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلي بيت المقدس .. حق يدخل بيت المقدس في مقدسات الإسلام لأنه أصبح محتوى في الإسلام.
ولم يشأ الله أن يجعل القبلة إلي الكعبة أول الأمر لأنهم كانوا يقدسونها على أنها بيت العرب وكانوا يضعون فيها أصنامهم .. ووضع الأصنام في الكعبة شهادة بأن لها قداسة في ذاتها .. فالقداسة لم تأت بأصنامهم بل هم أرادوا أن يحموا هذه الأصنام فوضعوها في الكعبة .. لماذا لم يضعوها في مكان آخر؟ لأن الكعبة مقدسة بدون أصنام. والله سبحانه وتعالى حين قال: "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" .. ولاه يعني حرفه ورده .. والقبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس .. وهنا يأتي الحق برد جامع هو أن أوامر الله الإيمانية لا ترتبط بالعلة .. إنما علة التنفيذ فيما يأمرنا الله سبحانه به جل جلاله أن الله هو الآمر .. ولو أن الله تبارك وتعالى بين لنا السبب أو العلة في تغيير القبلة لما كان الأمر امتحانا للإيمان في القلوب .. لأن الإيمان والعبادة هي طاعة معبود فيما يأمر وما ينهي .. يقول لك الله عظم هذا الحجر وهو الحجر الأسود الموجود في الكعبة تعظمه بالاستلام والتقبيل .. ويقول لك: ارجم هذا الحجر الذي يرمز إلي إبليس فترجمه بالحصى، ولا يقول الله سبحانه لماذا؟ لأنه لو قال لماذا ضاع الإيمان هنا وأصبح الأمر مسألة إقناع واقتناع.
فأنا حين أقول لك لا تأكل هذا لأنه مر وكل هذا لأنه حلو يكون السبب واضحا .. ولكن الله تبارك وتعالى يقول لك كل هذا ولا تأكل هذا .. فإن أكلت مما حرمه تكون آثما. وإن امتنعت تكون طائعا وتثاب. إذن العلة الإيمانية هي أن الأمر صادر من الله سبحانه .. ولو أنك امتنعت عن شرب الخمر لأنها ضارة بالصحة أو تفسد الكبد فلا ثواب لك، ولو امتنعت عن أكل لحم الخنزير لأن فيه كمية كبيرة من الكولسترول وله مضار كثيرة فلا ثواب لك .. ولكنك لو امتنعت عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير لأن الله حرمهما .. فهذه هي العبادة وهذا هو الثواب.
الله سبحانه وتعالى أراد أن يرد على هؤلاء السفهاء فقال: "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم" .. أي أنك إذا اتجهت إلي بيت المقدس أو اتجهت إلي خصوصية بذاته، والكعبة ليس لها خصوصية بذاتها .. ولكن أمر الله تبارك وتعالى هو الذي يعطيهما هذه الخصوصية .. فإذا اتجهنا إلي بيت المقدس فنحن نتجه إليه طاعة لأمر الله .. فإذا قال الله سبحانه اتجهوا إلي الكعبة اتجهنا إليها طاعة لأمر الله. قوله تعالى: "يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم" .. الصراط هو الطريق المستقيم لا التواء فيه بحيث يكون أقرب المسافات إلي الهدف. والله سبحانه وجهنا لبيت المقدس فهو صراط مستقيم نتبعه .. وجهنا إلي الكعبة فهو صراط مستقيم نتبعه .. فالأمر لله.