وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(143)

سورة البقرة

ساعة ترى كذلك فهناك تشبيه .. الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نتنبه إلي نعمته في أنه جعلنا أمة وسطاً .. فكل ما يشرعه الله يدخل في باب النعم على المؤمنين .. وإذا كان الاتجاه إلي الكعبة هو اختبار لليقين الإيماني في نفوس المسلمين .. فإنه سبحانه جعلنا أمة وسطا نعمة منه، ومادمنا وسطا فلابد أن هناك أطرافا حتى يتحدد الوسط .. هذا طرف ثم الوسط ثم طرف آخر .. ووسط الشيء منتصفه أو ما بين الطرفين.
ولكن ما معنى أمة وسطا؟ وسط في الإيمان والعقيدة فهناك من أنكروا وجود الإله الحق .. وهناك من أسرفوا فعددوا الآلهة .. هذا الطرف مخطئ وهذا الطرف مخطئ .. أما نحن المسلمين فقلنا لا إله إلا الله وحده لا شريك له واحد أحد .. وهذه بديهية من بديهيات هذا الكون .. لأن الله تبارك وتعالى خلق الكون وخلق كل ما فيه وقال سبحانه إنه خلق .. ولم يأت من يدعي الخلق .. إذن فالدعوى خالصة لله تبارك وتعالى .. ولو كان في هذا الكون آلهة متعددة لادعى كل واحد منهم الخلق .. ولذلك فإن الله جل جلاله يقول:

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ(91)
(من الآية 91 سورة المؤمنون)


أي لتنازع الخلق ولاضطرب الكون .. فالإسلام دين وسط بين الإلحاد وتعدد الآلهة .. على أن هناك أناساً يسرفون في المادية ويهملون القيم الروحية .. وأناساً يهملون المادة ويؤمنون بالقيم الروحية وحدها. واقع الحياة أن الماديين يفتنون الروحانيين لأن عندهم المال والقوة .. الإسلام جاء وسطا فيه المادة والروح .. وإياك أن تقول أن الروح احسن من المادة أو المادة احسن من الروح .. فالمادة وحدها الروح وحدها مسخرة وعابدة ومسبحة لله تعالى .. لكن حين تختل المادة بالروح فإنه توجد النفس، والنفس هي التي لها اختيار لتطيع أو تعصى .. تعبد أو تكفر والعياذ بالله.
الله سبحانه يريد من المؤمنين أن يعيشوا مادية الحياة بقيم السماء .. وهذه وسطية الإسلام، لم يأخذ الروح وحدها ولا المادة وحدها .. وإنما أوجد مادية الحياة محروسة بقيم السماء .. فحين يخبرنا الله سبحانه أنه سيجعلنا أمة وسطا تجمع خير الطرفين نعرف أن الدين جاء ليعصم البشر من أهواء البشر. الله تبارك وتعالى يريدنا أن نبحث في ماديات الكون بما يخلق التقدم والرفاهية والقوة للبشرية .. فما هو مادي معملي لا يختلف البشر فيه .. لكن ما يدخل فيه أهواء البشر ستضع السماء لكم قانونه .. فإذا عشتم بالأهواء ستشقون .. وإذا عشتم بنظريات السماء ستسعدون.
قد يتساءل البعض هل الشيوعية التي جاءت منذ اكثر من نصف قرن ارتقت بشعوبها أم لا؟ نقول انظروا إليها الآن لقد بنت ما ادعته من ارتقاءات على الكذب والزيف .. ثم تراجعت ثم انهارت تماما .. وكما انهارت الشيوعية ستنهار الرأسمالية لأنهما طرفان متناقضان إنما نحن أمة وسطا .. ولذلك أعطانا الله سبحانه خيري الدنيا والآخرة. الحق سبحانه يقول: "لتكونوا شهداء على الناس" .. أي أن الحجة ستكون لكم في المستقبل .. وسيضطر العالم إلي الرجوع إلي ما يقننه دينكم .. والله تبارك وتعالى قال: "أمة وسطا" ولم يقل الوسط بكسر الواو أي المنتصف حتى لا يقال إن هؤلاء الرأسماليين والشيوعيين سيتراجعون إلي الحق تماما .. ولكن بعضهم سيميل قليلا إلي هذه الناحية أو تلك بحيث يتم اللقاء .. ولذلك عندما يقولون نأخذ أموال الأغنياء ونوزعها على الفقراء .. نقول لهم وعندما يأتي فقير في المستقبل .. من أين تعطيه بعد أن قضيت على الأغنياء؟.
وقد سمعت من شخص له تجربه في السياسة والحكم .. قال إن الذي كان يعمل معي وأضاع ماله كله على الخمر والقمار والنساء كان احسن مني .. لأنني احتفظت بأموالي ونميتها فقالوا إنك إقطاعي وصادروها .. بينما ذلك الذي أسرف لم يفعلوا به شيئا .. قلت إن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تنمي مالك .. لأنك إن لم تنميه ودفعت عنه زكاة 2.5% فالمال يفنى خلال أربعين سنة .. ولكن إذا نميت مالك وجاءوا إلي ناتج عملك وأخذوه بدعوى أنك إقطاعي فإنهم يقضون على العمل في المجتمع .. لأنه إذا كنت ستأخذ ناتج عمله بدون حق فلماذا يعمل؟ إن الإسلام جاء ليزيد مجال حركة الحياة ويضمن مال المتحرك .. ليأخذ من ماله زكاة ويعين غير القادر حتى لا يحقد على المجتمع .. هذا وسط.
وقوله تعالى: "لتكونوا شهداء على الناس" .. فكأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه ستحدث في الكون معركة لن يفصل فيها إلا شهادة هذه الأمة .. فاليمين أو الرأسمالية على خطأ، والشيوعية على خطأ .. أما منهج الله الذي وضع الموازين القسط للكون ولحياة الإنسان فهو الصواب .. ثم يخبرنا الحق تبارك وتعالى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون شهيدا علينا .. هل كان عملنا وتحركنا مطابقا لما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وبلغه الرسول عليه الصلاة والسلام لنا؟ أم أننا اتبعنا أهواءنا وانحرفنا عن المنهج. الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون شهيداً علينا في هذه النقطة .. تلك الآية وإن كانت قد بشرت الأمة الوسط بأن العالم سيعود إلي العالم سيعود إلي حكمها، فذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا سادت شهادة الحق والعدل فيها.
وقوله تعالى: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه" .. هذه عودة إلي تحويل القبلة من بيت المقدس إلي الكعبة .. الله تبارك وتعالى لا يفضل اتجاها على اتجاه .. ولذلك فإن الذين يتجهون إلي الكعبة ستختلف اتجاهاتهم حسب موقع بلادهم من الكعبة .. هذا يتجه إلي الشرق وهذا يتجه إلي الشمال الشرقي .. وهذا يتجه إلي الجنوب الغربي.
إنه ليس هناك عند الله اتجاه مفضل على اتجاه .. ولكن تغيير القبلة جعله الله سبحانه اختبارا إيمانيا ليس علم معرفة ولكن علم مشهد .. لأن الله سبحانه وتعالى يعلم .. ولكنه جل جلاله يريد أن يكون الإنسان شهيدا على نفسه يوم القيامة .. ولكنه اختبار إيماني ليعلم الله مدى إيمانكم ومن سيطيع الرسول فيما جاءه من الله ومن سينقلب على عقبيه .. فكأن أمر تحويل القبلة سيحدث هزة إيمانية عنيفة في المسلمين أنفسهم .. فيعلم الله من يستمر في إيمانه واتباعه لرسول الله .. ومن سيرفض ويتحول عن دين الإسلام.
وقوله تعالى: "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله" .. والله يريد هنا العلم الذي سيكون شهيدا على الناس يوم القيامة .. وعملية الابتلاء أو الاختبار في تغيير القبلة عملية شاقة .. إلا على المؤمنين الذين يرحبون بكل تكليف .. لأنهم يعرفون أن الإيمان هو الطاعة ولا ينظرون إلي علة الأشياء. ولكن الكفار والمنافقين واليهود لم يتركوا عملية تحويل القبلة تمر هكذا فقالوا: إن كانت القبلة هي الكعبة فقد ضاعت صلاتكم أيام اتجهتم إلي بيت المقدس .. وإن كانت القبلة هي بيت المقدس فستضيع صلاتكم وأنتم متجهون إلي الكعبة.
نقول لهم لا تعزلوا الحكم عن زمنه .. قبلة بيت المقدس كانت في زمنها والكعبة تأتي في زمنها .. لا هذه اعتدت على هذه ولا هذه اعتدت على هذه .. ولقد مات أناس من المؤمنين وهم يصلون إلي بيت المقدس فقام المشككون وقالوا صلاتهم غير مقبولة .. ورد الله سبحانه بقوله: "وما كان الله ليضيع إيمانكم" .. لأن الذين ماتوا وهم يصلون إلي بيت المقدس كانوا مطيعين لله مؤمنين به فلا يضيع الله إيمانهم. وقوله تعالى: "إن الله بالناس لرءوف رحيم" .. أي تذكروا أنكم تؤمنون برب رءوف لا يريد بكم مشقة .. رحيم يمنع البلاء عنكم.