الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(262)

سورة البقرة

إنها لقطة أخرى يوضح فيها الحق: إياك حين تنفق مالك في سبيل الله وأنت طامع في عطاء الله أن تمن على من تعطيه أو تؤذيه. والمن هو أن يعتد على من احسن إليه بإحسانه ويريه أنه أوجب عليه حقا له وأنه أصبح صاحب فضل عليه، وكما يقولون في الريف (تعاير بها)، والشاعر يقول:
وإن امرأ أسدى إلي صنيعة وذكـرنيها مـرة للـئـيم
ولذلك فمن الأدب الإيماني في الإنسان أن ينسى أنه أهدى وينسى أنه أنفق، ولا يطلع أحداً من ذويه على إحسانه على الفقير أو تصدقه عليه وخاصة الصغار الذين لا يفهمون منطق الله في الأشياء، فعندما يعرف ابني أنني أعطي لجاري كذا، ربما دل ابني ومن على ابن جاري، ربما أخذه غروره فعيره هو، ولا يمكن أن يقدر هذا الأمر إلا مكلف يعرف الحكم بحيثيته من الله. إن الحق يوضح لنا: إياك أن تتبع النفقة مناً أو أذى؛ لأنك إن اتبعتها بالمن ماذا يكون الموقف؟ يكرهها المعطي الذي تصدقت بها عليه ويتولد عنده حقد، ويتولد عنده بغض، ولذلك حينما قالوا: "اتق شر من أحسنت إليه" شرحوا ذلك بأن اتقاء شر ذلك الإنسان بألا تذكره بالإحسان، وإياك أن تذكره بالإحسان؛ لأن ذلك يولد عنده حقداً.
ولذلك تجد كثيرا من الناس يقولون: كم صنعت بفلان وفلان الجميل، هذا كذا وهذا كذا، ثم خرجوا على فانكروه. وأقول لكل من يقول ذلك: مادمت تتذكر ما أسديته إليهم فمن العدالة من الله أن ينكروه، ولو أنك عاملت الله لما أنكروه، فمادمت لم تعامل الله، فإنك تقابل بنكران ما أنفقت. فكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يسخي بالآية الأولى قلب المنفق ليبسط يده بالنفقة، لذلك قال: "ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
فالحق سبحانه وتعالى طمأننا في الآية الأولى على أن الصدقة والنفقة لا تنقص المال بل تزيده، وضرب لنا الحق سبحانه المثل بالأرض التي تؤتينا بدل الحبة الواحدة سبعمائة حبة، ثم يوضح الحق لنا أن آفة الإنفاق أن يكون مصحوباً بـ"المن" أو "الأذى"؛ لأن ذلك يفسد قضية الاستطراق الصفائي في الضعفاء والعاجزين، ولذلك يقول الحق سبحانه:

الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ
(من الآية 262 سورة البقرة)


انظر إلى الدقة الأدائية في قوله الكريم: "ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى". قد يستقيم الكلام لو جاء كالآتي: "الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى"، لكن الحق سبحانه قد جاء بـ"ثم" هنا؛ لأن لها موقعاً. إن المنفق بالمال قد لا يمن ساعة العطاء، ولكن قد يتأخر المنفق بالمن، فكأن الحق سبحانه وتعالى ينبه كل مؤمن: يجب أن يظل الإنفاق غير مصحوب بالمن وأن يبتعد المنفق عن المن دائماً، فلا يمتنع عن المن فقط وقت العطاء، ولكن لابد أن يستمر عدم المن حتى بعد العطاء وإن طال الزمن.
إن "ثم" تأتي في هذا المعنى لوجود مسافة زمنية تراخى فيها الإنسان عن فعل المن. فالحق يمنع المن منعاً متصلاً متراخياً، لا ساعة العطاء فحسب، ولكن بعد العطاء أيضاً. وشوقي أمير الشعراء ـ رحمه الله ـ عندما كتب الشعر في حمل الأثقال وضع أبياتاً من الشعر في مجال حمل الأثقال النفسية، فقال:
أحمـلت ديـنـاً في حياتك مرة؟
أحمـلت يـوما في الضـلوع غليلا؟
أحمـلت منـا في النهار مكررا؟
والليـل مـن مشـدٍ إليك جمـيلا؟
وبعد أن عدد شوقي أوجه الأحمال الثقيلة في الحياة قال:
تـلك الحـيـاة وهـذه أثقالها
وزن الحـديد بـهـا فعـاد ضئيلا

كأن المن إذن عبء نفسي كبير. ويطمئن الحق سبحانه من ينفقون أموالهم دون من ولا أذى في سبيل الله بأن لهم أجراً عند ربهم. وكلمة "الأجر" ـ والإيضاح من عند الرب ـ هي طمأنة إلى أن الأمر قد أحيل إلى موثوق بأدائه، وإلى قادر على هذا الأداء. أما الذي يمن أو يؤذي فقد أخذ أجره بالمن أو الأذى، وليس له أجر عند الله؛ لأن الذي يمن أو يؤذي لم يتصور رب الضعيف، وإنما تصور الضعيف. والمنفق في سبيل الله حين يتصور رب الضعيف، وأن رب الضعيف هو الذي استدعاه إلى الوجود، وهو الذي أجرى عليه الضعف، فهو يؤمن أن الله هو الكفيل برزق الضعيف، وحين ينفق القوي على الضعيف فإنما يؤدي عن الله، ولذلك نجد في أقوال المقربين:
"إننا نضع الصدقة في يد الله قبل أن نضعها في يد الضعيف" ولننظر إلى ما فعلته سيدتنا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد راحت تجلو الدرهم وتطيبه، فلما قيل لها: ماذا تصنعين؟ قالت: أجلوا درهماً وأطيبه لأني نويت أن أتصدق به. فقيل لها: أتتصدقين به مجلواً معطراً؟ قالت الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأني أعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير. إن الأجر يكون عند من يغليه وعليه ويرتفع بقيمته وهو الخالق الوهاب. ولنتأمل قول الحق: "ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" لماذا لم يقل الله: ولا خوف منهم؟. لأن الحق يريد أن يوضح لنا بقوله: "ولا خوف عليهم" أن هناك عنصراً ثالثاً سيتدخل. إنه تدخل من شخص قد يظهر للإنسان المنفق أنه محب له، فيقول: ادخر للأيام القادمة، ادخر لأولادك.
لمثل هذا العنصر يقول الحق: "ولا خوف عليهم" أي إياك يا صاحب مثل هذا الرأي أن تتدخل باسم الحب، ولتوفر كلامك؛ لأن المنفق في سبيل الله إنما يجد العطاء والحماية من الله. فلا خوف على المنفق في سبيل الله، وليس ذلك فقط، إنما يقول الحق عن المنفقين في سبيل الله دون من ولا أذى: "ولا هم يحزنون" ومعناها أنه سوف يأتي في تصرفات الحق معهم ما يفرحهم بأنهم تصدقوا إما بسرعة الخلف عليهم، أو برضى النفس، أو برزق السلب، فآفة الناس أنهم ينظرون إلى رزق الإيجاب دائما، أي أن يقيس البشر الرزق بما يدخل له من مال، ولا يقيسون الأمر برزق السلب، ورزق السلب هو محط البركة.
هب أن إنسانا راتبه خمسون جنيها، وبعد ذلك يسلب الله منه مصارف تطلب منه مائة جنيه، كأن يدخل فيجد ولده متعبا وحرارته مرتفعة، فيرزق الله قلب الرجل الاطمئنان، ويطلب من الأم أن تعد كوبا من الشاي للابن ويعطيه قرصا من الأسبرين، وتذهب الوعكة وتنتهي المسألة. ورجل آخر يدخل ويجد ولده متعبا وحرارته مرتفعة، وتستمر الحرارة لأكثر من يوم، فيقذف الله في قلبه الرعب، وتأتي الخيالات والأوهام عن المرض في ذهن الرجل، فيذهب بابنه إلى الطبيب فينفق خمسين أو مائة من الجنيهات.
الرجل الأول، أبرأ الله ابنه بقرش. والثاني، أبرأ الله ابنه بجنيهات كثيرة. إن رزق الرجل الأول هو رزق السلب، فكما يرزق الله بالإيجاب، فالله يرزق بالسلب أي يسلب المصرف ويدفع البلاء. وهناك رجل دخله مائة جنيه، ويأتي له الله بمصارف تأخذ مائتين، وهناك رجل دخله خمسون جنيها فيسلب الله عنه مصارف تزيد على مائة جنيه، فأيهما الأفضل.
إنه الرجل الذي سلب الله عنه مصارف تزيد على طاقته. إذن فعلى الناس أن تنظر إلى رزق السلب كما تنظر إلى رزق الإيجاب، وقوله الحق عن المنفقين في سبيله دون من أو أذى: "ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" هذا القول دليل على أن الله سيأتي بنتيجة النفقة بدون من أو أذى بما يفرح له قلب المؤمن، إما بالبركة في الرزق وإما بسلب المصارف عنه، فيقول القلب المؤمن: إنها بركة الصدقة التي أعطيتها. إنه قد تصدق بشيء فرفع وصرف عنه الله شيئا ضارا، فيفرح بذلك القلب المؤمن. وبعد ذلك ينبهنا الحق سبحانه وتعالى إلى قضية مهمة هي: إن لم تجد أيها المؤمن بمالك فأحسن بمقالك، فإن لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بحسن الرد، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)أخرجه البخارى فى كتاب الزكاة.
والحق سبحانه وتعالى يحدد القضية في هذه الآية

قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ(263)

سورة البقرة

يتبع فى تفسير الآية التالية بإذن الله