يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)

سورة البقرة

وكلمة "يمحق" من "محق" أي ضاع حالا بعد حال، أي لم يضع فجأة، ولكن تسلل في الضياع بدون شعور، ومنه "المحاق" أي الذهاب للهلال. "ويمحق الله الربا" أي يجعله زاهيا أمام صاحبه ثم يتسلل إليه الخراب من حيث لا يشعر. ولعلنا إن دققنا النظر في البيئات المحيطة بنا وجدنا مصداق ذلك. فكم من أناس رابوا، ورأيناهم، وعرفناهم، وبعد ذلك عرفنا كيف انتهت حياتهم. "يمحق الربا ويربي الصدقات" ويقول في آية أخرى:

وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ
(من الآية 39 سورة الروم)


فإياكم أن تعتقدوا أنكم تخدعون الله بذلك .. ما هو المقابل؟

وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ
(من الآية 39 سورة الروم)


و"المضعفون" هم الذين يجعلون الشيء أضعافاً مضاعفة. وعندما يقول الحق: "يمحق الله الربا" فلا تستهن بنسبة الفعل لله؛ إن نسبة الفعل لفاعله يجب أن تأخذ كيفيته من ذات الفاعل، فإذا قيل لك: فلان الضعيف يصفعك، أو فلان الملاكم يصفعك، فلابد أن تقيس هذه الصفعة بفاعلها، فإذا كان الله هو الذي قال: "يمحق الله". أيوجد محق فوق هذا؟ لا، لا يمكن. وأيضا حين يقول الله: "يمحق الله الربا ويربي الصدقات" في القرآن الذي يتلى وهو معجز؛ ومحفوظ ومتحدي بحفظه، فهذه قضية مصونة "يمحق الله الربا ويربي الصدقات"؛ لأن الذي قالها هو الله في كتاب الله المحفوظ، الذي يتلى متعبداً به، أي أن القضية على ألسنة الجماهير كلها، وفي قلوب المؤمنين كلها، أيقول الله قضية يحفظها ذلك الحفظ ليأتي واقع الزمن ليكذبها؟ لا، لا يمكن. فالإنسان لا يحفظ إلا المستند الذي يؤيده!! أنا لا أحفظ إلا "الكمبيالة" التي تخصني! فمادام هو حافظه وهو القائل:

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)
(سورة الحجر)


فمعنى ذلك أنه سبحانه سيطلق فيه قضايا، وهذه القضايا هو الذي تعهد بحفظها، ولا يتعهد بحفظها إلا لتكون حجة على صدقه في قولها. فالشيء الذي لا يكون فيه حجة لا نحافظ عليه. وهو سبحانه القائل:

وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ(173)
(سورة الصافات)


إن هذه قضية قرآنية تعهد الله بحفظها، فلابد أن يأتي واقع الحياة ليؤيدها، فإذا كان واقع الحياة لا يؤيدها، ماذا يكون الموقف؟ أنكذب القرآن ـ وحاشانا أن نكذب القرآن ـ الذي قاله الحق الذي لا إله سواه ليدير كونا من ورائه. "يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم". ولماذا قال الحق: "كفار" ولم يقل: "كافر"، ولماذا قال: "أثيم" وليس مجرد "آثم"؟ لأنه يريد أن يرد الحكم على الله ومادام يريد أن يرد الحكم على الله، فقد كفر كفرين اثنين: كفر لأنه لم يعترف بهذه، وكفر لأنه رد الحكم على الله، وهو "أثيم"، ليس مجرد "آثم"، وفي ذلك صيغة المبالغة لنستدل على أن القضية التي نحن بصددها قضية عمرانية اجتماعية كونية، إن لم تكن كما أرادها الله فسيتزلزل أركان المجتمع كله.
وبعد أن شر لنا الحق مرارة المبالغة في "كفار" وفي "أثيم" يأتي لنا بالمقابل حتى ندرك حلاوة هذا المقابل، ومثال ذلك ما يقول الشاعر:
فالـوجه مـثل الصـبح مـبـيض والشـعر مـثل اللـيل مسـود
ضـدان لمـا اسـتـجـمـعا حسنا والضـد يظـهر حسـنه الضد
فكأن الله بعد أن تكلم عن الكفار والأثيم يرجعنا لحلاوة الإيمان فيقول:

 

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(277)

 

سورة البقرة

يتبع فى تفسير الآية التالية بإذن الله