فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً(5)

معلوم أن ( إذا) ظرف لما يستقبل من الزمان . كما تقول : إذا جاء فلان أكرمته فهذا دليل على أن أولى الإفسادتين لم تحدث بعد, فلا يستقيم القول بأن الفساد الأول جاء في قصة طالوت وجالوت وأن الإفساد الثاني جاء في قصة بختنصر.

وقوله: ( وَعُـــد). والوعد كذلك لا يكون بشيء مضى وإنما بشيْ مستقبل. و ( أولاَهما) أي الإفساد الأول.

( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا ..(5)                         [الإسراء]

وفي هذه العبارة دليل آخر على أن الإفسادتين كانتا في حضن الإسلام؛ لأن كلمة ( عِباداً)  لا تطلق إلا على المؤمنين, أما جالوت الذي قتله طالوت, وبختنصر  فهما كافران .

 

وقد تحدث العلماء في قوله تعالى: (  عِبَاداً لَّنَا.. ً(5)      [ الإسراء]

فمنهم من رأى أن العباد والعبيد سواء, وأن قوله ( عبادا) تقال للمؤمن وللكافر, وأتوا بالأدلة التي تؤيد رأيهم حَسب زعمهم. ومن أدلتهم قول الحق سبحانه وتعالى في قصة عيسى عليه السلام: ( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ(116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(118)    [ المائدة]

والشاهد في قوله تعالى: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ... (118) [ المائدة]

فاطلق كلمة ( عبادي) على الكافرين , وعلى هذا القول لا مانع أن يكون وبختنصر , وهما كافران  قد سلّطا على بني إسرائيل.

 

ثم استدلوا بآية  أخرى تحكي موقفا من مواقف يوم القيامة. يقول تعالى للشركاء الذين اتخذوهم من دون الله : (أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء .. 17)          [ الفرقان]

فأطلق كلمة ( عباد) على الكافرين أيضا.

إذن قوله تعالى: ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا...(5) [ الإسراء]

ليس من الضروري أ يكونوا مؤمنين, فقد يكونون من الكفار, وهنا نستطيع أ نقول: إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن ينتقم منهم, ويسلط عليهم أمثالهم من الكفرة والظالمين, فإذا أراد سبحانه أن ينتقم من الظالم سلط عليه من هو أكثر منه ظلما , وأشدّ منه بطشا. كما قال سبحانه: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(129)    [ الأنعام ] وإذا كان أصحاب هذا الرأي لديهم من الأدلة ما يثبت أن كلمة عباد تطلق على المؤمنين والكافرين ؛ فسوف نأتي بما يدل على أنها لا تطلق إلا على المؤمنين ( قال الأزهري: اجتمع العامة على تفرقة ما بين عباد الله والمماليك . فقالوا : هذا عبد من عباد الله , وهؤلاء عبيد مماليك . وقال الليث: يقال للمشركين هم عبدة الطاغوت. ويقال للمسلمين عباد الله يعبدون الله.( لسان العرب- مادة عبد)

ومن ذلك قوله تعالى : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً(63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً(64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً(65) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً(66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً(67)  )[ الفرقان]

إلى آخر ما ذكرت الآيات من صفات المؤمنين الصادقين. فأطلق عليهم {عباد الرحمن}.

دليل آخر  في قول الحق سبحانه في نقاشه لإبليس : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ.. (42)    [ الحجر]

والمراد هنا المؤمنين .. وقد قال إبليس: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(83)    [ص]

 

إذن : هنا إشكال, حيث أتى كل بأدلته وما يؤيد قوله, وللخروج من هذا الإشكال نقول: كلمة ( عباد) و( عبيد) كلاهما جمع ومفردهما واحد ( عبد). فما الفرق بينهما؟

لو نظرت إلى الكون كله مؤمنه وكافرة لوجدتهم جميعا لهم اختيارات في أشياء, ومقهورين في أشياء أخرى, فهم جميعاً عبيد بهذا المعنى يستوي في القهر المؤمن والكافر, إذن : كل الخلق عبيد فيما لا اختيار لهم فيه.

ثم بعد ذلك نستطيع أن نقسمهم إلى قسمين: عبيد يظلون عبيداً لا يدخلون في مظلة العباد, وعبيد تسمو بهم أعمالهم وانصياعهم لأمر الله فيدخلون في مظلة عباد الله . وكيف ذلك؟

لقد جعل الله تعالى لك أفعالك منطقة اختيار ؛ فجعلك قادرا على الفعل ومقابله وخلقك صالحا للإيمان وصالحاً للكفر, ولكنه سبحانه وتعالى يأمرك بالإيمان تكليفاً.

ففي منطقة الاختيار هذه يتمايز العبيد والعباد, فالمؤمنون بالله يخرجون عن اختيارهم إلى اختيار ربهم , ويتنازلون عن مرادهم إلى مراد ربهم في المباحات, فتراهم ينفّذون ما أمرهم الله به ويجعلون الاختيار كالقهر . ولسان حالهم يقول لربهم : سمعا وطاعة.

وهؤلاء هم العباد الذين سلّموا جميع أمرهم لله في منطقة الاختيار , فليس لهم إرادة أمام إرادة الله عز وجل.

إذن : كلمة عباد تطلق على من تنازل عن منطقة الاختيار. وجعل نفسه مقهورا لله حتى في المباحات.

أما الكفار الذين اختاروا مرادهم وتركوا مراد الله واستعملوا اختيارهم , ونسوا اختيار ربهم حيث خيرهم: تؤمن أ, تكفر قال: أكفر , تشرب الخمر أو لا تشرب قال : أشرب, تسرق أو لا تسرق, قال : أسرق. وهؤلاء هم العبيد, ولا يقال لهم ( عباد) , أبدا: لأنهم  لا يستحقون شرف هذه الكلمة.

ولكي نستكمل حل ما أشكل في هذه المسألة لابد لنا أن نعلم أن منطقة الاختيار هذه لا تكون إلا في الدنيا في دار التكليف: لأنها محل الاختيار, وفيها تستطيع أن نميز بين العباد الذين انصاعوا لربهم وخرجوا عن مرادهم لمراده سبحانه, وبين العبيد الذين تمردوا واختاروا غير مراد الله عز وجل في الاختيارات . أما في القهريات فلا يستطيعون الخروج عنها.

فإذا جاءت الآخرة فلا محلّ للاختيار والتكليف , فالجميع مقهور لله تعالى . ولا مجال فيها للتقسيم السابق, بل الجميع عبيد وعباد في الوقت ذاته.

إذن نستطيع أن نقول : إن الكل عباد في الآخرة , وليس الكل عباد في الدنيا. وعلى هذا نستطيع فهم معنى ( عباد) في الآيتين:

((إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ... (118)  [ المائدة]

وقوله: ((أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء ..(17)  [ الفرقان ]

فسماهم الحق سبحانه عبادا: لأنه لم يعد لهم اختيار يتمردون فيه, فاستووا مع المؤمنين في عدم الاختيار مع مرادات الله عز وجل.

إذن : فقول الحق سبحانه : ( فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا ...(5)         [ الإسراء]

المقصود بها الإفساد الأول الذي حدث من اليهود في ظل الإسلام. حيث نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, والعباد هم رسول الله والذين امنوا معه عندما جاسوا خلال ديارهم . وأخرجوهم من المدينة وقتلوا منهم من قتلوه , وسبوا من سبوه.

وقوله: (   أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ..(5)           [ الإسراء]

أي : قوة ومنعة, وهذه كانت حال المؤمنين في المدينة, بعد أن أصبحت لهم دولة وشوكة يواجهون بها أهل الباطل, وليس حال ضعفهم في مكة.

وقوله سبحانه: ( فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ (5) [ الإسراء]

جاسوا من جاس أي: بحث واستقصى المكان, وطلب من فيه. وهذا المعنى هو الذي يسميه رجال الأمن "تمشيط المكان"

وهو اصطلاح يعني دقة البحث عن المجرمين في هذا المكان, وفيه تشبيه لتمشيط الشعر, حيث يتخلل المشط جميع الشعر , وفي هذا ما يدل على دقة البحث, فقد يتخلل المشط تخللا سطحياً, وقد يتخلل بعمق حتى يصل إلى البشرة فيخرج ما لصق بها.

إذن : جاسوا أي: تتبعوهم تتبعا بحيث لا يخفى عليهم أحد منهم, وهذا ما حدث مع يهود المدينة: بني قينقاع, وبني قريظة, وبني النضير , ويهود خيبر.

ونلاحظ هنا أن القرآن آثر التعبير بقوله:(بَعَثْنَا ...(5) [ الإسراء] والبعث يدل على الخير والرحمة. فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في حال اعتداء , بل في حالة دفاع عن الإسلام أمام من خانوا العهد ونقضوا الميثاق.

وكلمة ( عَلَيْكُمْ ....(5) [ الإسراء] تفيد العلو والسيطرة.

وقوله :ِ(وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً(5) [ الإسراء]

أي : وعد صدق لابد أن يتحقق لأنه وعد من قادر على الإنقاذ ولا توجد قوة تحول بينه وبين إنقاذ ما وعد به, وإياك أن تظن أنه كأي وعد يمكن أن يفي به صاحبه أو لا يفي به: لأن الإنسان إذا وعد وعدا: سألقاك غدا مثلاً.

لهذا الوعد يحتاج في تحقيقه أن يكون لك قدرة على بقاء طاقة الإنقاذ, لكن قد يطرأ عليك من العوارض ما يحول بينك وبين إنقاذ ما وعدت به, إنما إذا كان الوعد ممن يقدر على الإنقاذ . ولا تجري عليه مثل هذه العوارض, فوعده متحقق النفاذ.

فإن قال قائل: الوعد لا تقال إلا في الخير, فكيف سمّى القرآن هذه الأحداث: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ.... (5) [الإسراء]

قالوا: الوعيد يطلق على الشر, والوعد يطلق على الخير وعلى الشر, ذلك لأن الشيء قد يكون شراً في ظاهره, وهو خير في باطنه, وفي هذا الموقف الذي نحن بصدده, إذا أراد الحق سبحانه أن يؤدب هؤلاء الذين انحرفوا عن منهجه فقد نرى أن هذا شر في ظاهره, لكنه في الحقيقة خير بالنسبة لهم. إن حاولوا هم الاستفادة منه.

ونضرب لذلك مثلاً بالولد الذي يعاقبه والده على إهماله أو تقصيره, فيقسو عليه حِرصاً على ما يصلحه. وصدق الشاعر حين قال:

فَقَسا ليزدجِروا ومَنْ يَكُ حَاِزماً    فَليقسُ أحياناً على َمنْ  َيرْحمُ