يقول الحق سبحانه وتعالى :

 (  عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً"1" (8)  

1-  حصيرا: محبسا ومحصراً, وأصل الحصر والإحصار: المنع.[لسان العرب- مادة حصر] وقال ابن كثير في تفسيره (3/26)حصيراً أي: مستقراً ومحصراً وسجناً لا مبعد لهم عنه.

 

و( عَسى) حرف يدل على الرجاء, وكأ، في الآية إشارة إلى أ،هم سيظلون في مذلة ومسكنة, ولن ترتفع لهم رأس إلا في ظِلّ حبل من الله وعهد منه, وحبل من الناس الذين يعاهدونهم على النصرة والتأييد والحماية.

 

وقوله: (رَبُّكُمْ ..(8)   [ الإسراء]

انظر فيه إلى العظمة الإلهية, ورحمة الرب سبحانه الذي ما يزال يخاطب الكافرين الملحدين المعاندين لرسوله, وهو آخر رسول يأتي من السماء, ومع ذلك كله يخاطبهم بقوله : ( رَبُّكُمْ ..(8)    [ الإسراء]

لأن الربّ هو المتولي للتربية والمتكفل بضمان مُقومات الحياة, ولا يضنّ بها حتى وإن كان العبد كافراً, فالكل أمام عطاء الربوبية سواء: المؤمن والكافر, والطائع والعاصي.

الجميع يتمتع بنِعَم الله: الشمس والهواء والطعام والشراب, فهو سبحانه لا يزال ربُّهم مع كل ما حدث منهم.

وقوله تعالى : (أَن يَرْحَمَكُم.. (8)     [الإسراء]

والرحمة تكون للإنسان إذا كان في موقف يستحق فيه الرحمة, واليهود لن تكون لهم دولة, ولن يكون لهم كيان, بل يعيشون في حضن الرحمة الإيمانية الإسلامية التي تُعطي لهم فرصة التعايش مع الإسلام معايشة, كالتي لهم في مدينة رسول الله , يوم أن أكرمهم وتعاهد معهم.

وقد وصلت هذه المعايشة لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يقترض لا يقترض من مسلم , بل كان يقترض من اليهود, وفي هذا حكمة يجب أن نعيها , وهي أن المسلم يستحي أن يطالب رسول الله إذا نسي مثلاً, أما اليهودي فسوف يُـلح في طلب حقه وإذا نسى رسول الله سَيُـذكِّره.

لذلك كان اليهود كثيراً ما يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُغالطونه مراراً, وقد حدث أن وفّى رسول الله لأحدهم دَيْنه, لكنه أنكر وأتى يطالب به من جديد, وأخذ يراجع رسول الله ويغالطه وينكر ويقول: ابْغِني شاهداً.

ولم يكن لرسول الله شاهد وقت السداد, وهكذا تأزّم الموقف في حضور أحد الصحابة, واسمه خزيمة, فهَبَّ خزيمة قائلاً: أنا يا رسول الله كنت شاهداً, وقد أخذ هذا اليهودي دَيْنه, فسكت اليهودي ولم يرد ولم يجادل , فدل ذلك على كذبه, ويكاد المريب أن يقول : خذوني.

لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اختلى بخزيمة بعد أن انصرف الدائن قال: يا خزيمة ما حملك على هذا القول , ولم يكن أحد معنا , وأنا أقضي لليهودي دَيْنه؟ فضحك خزيمة وقال: يا رسول الله أأصدِّقُـك في خبر السماء وأُكذبك في عِدّة دراهم؟

فَسُر رسول الله من اجتهاد الرجل, وقال: ( مَنْ شهد له خُزيمة فحسبُه) أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/18) والطبراني في المعجم الكبير(4/101) من حديث خزيمة بن ثابت . قال الهيثمي في المجمع(9/320) ( رجاله كلهم ثقات)

ثم يُهدد الحق سبحانه بني إسرائيل فيقول: (وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا.. ( 8)    [ الإسراء]

إن عدتم للفساد عدنا ؛ وهذا جزاء الدنيا, وهو لا ينجيكم من جزاء الآخرة, فهذه مسألة وتلك أخرى حتى لا يفهموا أن العقاب على الذنوب في الدنيا يبرئهم من عذاب الآخرة.

فالعقوبة على الذنب التي تُبرِّئ المذنب من عذاب الآخرة ما كان في حِضْن الإسلام, و إلا لاستوى مَن أقيم عليه الحدّ مع مَنْ لم يُقم عليه الحد.

فلو سرق إنسان وقطعت يده, وسرق آخر ولم تقطع يده,

فلو استووا في عقوبة الآخرة, فقد زاد أحدهما عن الآخر في العقوبة, وكيف يستوي الذي قُطعت يده, وعاش بِدلتها طوال عمره مع مَن أفلت من العقوبة؟

هذا إن كان المذنب مؤمناً.

أما إذا كان المذنب غير مؤمن فالأصل الذي بنينا عليه هذا الحكم ضائع لا وجود له, وعقوبة الدنيا هنا لا تُعفي صاحبها من عقوبة الآخرة؛ لذلك يقول تعالى بعدها: ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً(8)  [ الإسراء]

(جَعَلْنَا)  فعل يفيد التحويل, كأن تقول: جعلت العجين خبزاً, وجعلت القطن ثوباً, أي : صيرته وحوّلْتُه. فماذا كانت جهنم أولاً فيحولها الحق سبحانه حصيراً؟

قوله تعالى: ( جعلنا) في هذه الآية لا تفيد التحويل, إنما هي بمعنى خَلَقنا أي: خلقناها هكذا, كما نقول: سبحان الذي جعل اللبن أبيض, فاللبن لم يكن له لون آخر فحوله الله إلى بل خلقه هكذا بداية.

ومعنى (حَصِيراً.. (8)        [الإسراء]

الحصير فراش معروف يُصنع من القشّ أو من نبات يُسمى السمر, والآن يصنعونه من خيوط البلاستيك, وسُمي حصيراً, لأن كلمة حصير مأخوذة من الحصر, وهو التضييق في المكان للمكين, وفي صناعة الحصير يضمُّون الأعواد بعضها إلى بعض إلى أن تتماسك , ولا توجد مسافة بين العود والآخر.

لكن لماذا نفرش الحصير؟ نفرش الحصير؛ لأنه يحبس عنّا القذَر والأوساخ, فلا تصيب ثيابنا. إذن : الحصر معناه المنع  والحبس والتضييق.

والمتتبع لمادة ( حصر) في القرآن الكريم يجدها بهذه المعاني. يقول تعالى: (  فَإِذَا انسَلَخَ"1" الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ ..(5)    [ التوبة]   أي : ضيقوا عليهم.

1- انسلخ الشهر: انقضى وانتهى [ القاموس القويم2/333]

وقال تعالى في فريضة الحج: ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.. (196)            [ البقرة]           أي : حُبستم ومُنعتم من أداء الفريضة.

إذن : فقوله تعالى : ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً(8)   [ الإسراء]

أي: تحسبهم فيها وتحصرهم, وتمنعهم الخروج منها, فهي لهم سجن لا يستطيعون الفرار منه, لأنها تحيط بهم من كل ناحية, كما قال تعالى: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا .. (29) [ الكهف]

قال ابن الأعرابي: سرادقها: سورها. وعن ابن عباس: حائط من نار. قال الكلبي: عنق تخرج من النار فتحيط بالكفار كالحظيرة. وخرّج ابن المبارك عن حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( السرادق النار أربع جدر, كُثف كل جدار مسيرة أربعين سنة) قال القرطبي في تفسيره (5/4134): " وهذا يدل على أن السرادق ما يعلو الكفار من دخان أو نار, وجدره ما وُصف".

فلا يستطيعون الخروج , فإن حاولوا الخروج رُدوا إليها, كما قال تعالى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا ..(20)   [السجدة]

وفي قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً(8)    [ الإسراء]

إشارة إلى أنهم كانوا إذا أجرموا في الدنيا يحتمون في أنصارهم وأتباعهم من الأقوياء, ويدخلون في حضانة أهل الباطل, أما في الآخرة فلن يجدوا ناصرا أو مدافعاً.

يقول تعالى: ( مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ(25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ(26)  [ الصافات]

وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن الإسراء بالرسول الخاتم الرحمة.

وجعله آية  أرضية يمكن إقامة الدليل عليها, حيث خرق له الناموس في أمور يعلمها قومه, فإذا جاءت آية المعراج وخرق له الناموس فيما لا يعلمه القوم كان أدهى إلى تصديقه.

ثم أوضح الحق سبحانه أن عبودية محمد صلى الله علية وسلم لربه هي التي أعطته هذه المنزلة, وكذلك كان نوح – عليه السلام- عبداً شكوراً, فهناك فرق بين عبودية الخًلْق للخالق, وعبودية الخلق للخلق؛ لأن العبودية لخلق مذمومة, حيث يأخذ السيد خير عبده, أما العبودية لله فالعبد يأخذ خير سيده.

ثم تحدًّث الحق سبحانه عن بني إسرائيل, وما وقعوا فيه من إفساد في الأرض فأعطانا بذلك نماذج للأعمال لمن أحسن ولمن أساء , وكل له عمله دون ظلم أو جور.

لذلك ينقلنا السياق القرآني  إلى بيان المنهج الإلهي المنزل من السماء  ليوضح عبودية الإنسان لربه, وكيف يكون عبداً مخلصاً لله تعالى ,  فيقول الحق سبحانه: ( إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيرا..(9)           [الإسراء]