" وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)"

 

يعني يارب أرنا هؤلاء المجرمين ومكنا منهم لننتقم لأنفسنا .

ونجعلهم تحت أقدامهم وهكذا اخرجوا كل سمهم في هؤلاء المجرمين والقوا عليهم بتبعة ما هم فيه .

 

" فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)"

 

الشافع من الشفع أي الاثنين والشافع هو الذي يضم صوته الى صوتك في أمر لا تستطيع ان تناله بذاتك فيتوسط لك عند من لديه هذا الامر والشفاعة في الاخرة لا تكون الا لمن اذن الله له يقول تعالى

 

" وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ..(28)" الأنبياء

 

ويقول سبحانه

 

" مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ... (255)" البقرة

 

اذن : ليس كل احد صالحا للشفاعة معدا لها وكذلك في الشفاعة في الدنيا فلا يشفع لك الا صاحب منزلة ومكانة وله عند الناس أياد تحملهم على احترامه وقبول وساطته فهي شفاعة مدفوعة الثمن فللشافع رصيد من الجميل وسوابق الخير تزيد عما يطلب للمشفوع له .

لذلك نرى في الريف مثلا رجلا له جاه ومنزلة بين الناس فيحكم في النزاعات ويفصل في الدم فحين يتدخل بين خصمين ترى الجميع ينصاع له ويذعن لحكومته .

ومن ذلك ما عرفناه في الشرع من شركة الوجوه (1) (1) قال موفق الدين ابن قدامه ( ت 630 هـ) في كتابه المغني ( 5/ 122 ) " اما شركة الوجوه فهو ان يشترك اثنان فيما يشتؤيان بجاههما وثقة التجار يهما من غير ان يكون لهما راس مال على ان ما اشتريا بينهما نصفين او ثلاثا او أرباعا او نحو دلك ويبيعان دلك فما قسم الله تعالى فهو بينهما فهي جائزة "

 

ومعلوم ان الشركة تحتاج الى مال او عمل لكن قد يوجد شخص ليس لديه مال ولا يستطيع العمل لكن يتمتع بوجاهة ومنزلة بين الناس فنأخذه شريكا معنا بما لديه من هذه الميزة .

والحقيقة ان وجاهته ومنزلته بين الناس قومت بالمال لانه ما نالها من فراغ انما جاءت نتيجة جهد وعمل ومجاملات للناس احترموه لأجلها فلما زال عنه المال وأنفقه في الخير بقي له رصيد من الحب والمكانة بين الناس ومن ذلك ايضا شراء العلامة التجارية .

ومعنى" وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)" الشعراء فرق بين الشافع والصديق لابد ان تتطلب منه ان يشفع لك اما الصديق وخاصة الحميم لا ينتظر ان تتطلب منه انما يبادرك بالمساعدة ووصف الصديق بأنه حميم لان الصداقة وحدها في هذا الموقف لا تنفع حيث كل انسان مشغول بنفسه .

فإذا لم تكن الصداقة داخلة في الحميمية فلن يسال صديق عن صديقه كما قال تعالى

 

" يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) " عبس

 

وقد أثارت مسالة الشفاعة لغطا كثيرا من المستشرقين الذين يريدون تصيد المأخذ على القرآن الكريم فجاء أحدهم يقول : تقولون ان القرآن معجزة في البلاغة ونحن نرى فيه المعنى الواحد يأتي في أسلوبين فان كان الأول بليغا فالأخر غير بليغ وان كان الثاني بليغا فالأول غير بليغ ثم يقول عن مثل هذه الآيات انها  تكرار لا فائدة منه .

ونقول له : أنت تنظر الى المعنى في إجماله وليس لديك الملكة العربية التي تستقبل بها كلام الله ولو كانت عندك هذه الملكة لما اتهمت القران فكل اية مما تظنه تكرارا انما هي تأسيس في مكانها لا تصلح الا له .

والآيتان محل الكلام عن الشفاعة في سورة البقرة وهما متفقتان في الصدر مختلفتان في العجز احديهما :

 

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ..(48) " البقرة

 

والأخرى :

 

" وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا.. (123)" البقرة

 

اذن : فصدر الآيتين متفق اما عجز الأولى :

 

وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ...(48)" البقرة

 

وعجز الأخرى :"

 

" وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ َ.. (123)" البقرة

 

فهما مختلفتان .

وحين تتأمل صدري الآيتين الذي تظنه واحدا في الآيتين تجد أنه مختلف ايضا نعم هو متحد في ظاهره لكن حين تتأمله تجد ان الضمير فيهما أما يعود على الشافع وأما يعود على المشفوع له فان عاد الضمير على المشفوع له نقول له : لا نأخذ منك عدلا ولا تنفعك شفاعة وان عاد الضمير على الشافع نقول له لا نقبل منك شفاعة – ونقدم الشفاعة أولا – ولا نأخذ منك عدلا .

اذن : ليس في الآيتين تكرار كما تظنون فكل منهما يحمل معنى لا تؤديه الأخرى وقد أوضحنا هذه المسألة في قوله تعالى :

 

" وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ.. (31)" الإسراء

 

والأخرى :

 

" وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ... (151)" الانعام

 

فصدر الآيتين مختلف وكذلك العجز مختلف فعجز الأولى :

 

نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ (31) " الإسراء

 

وعجز الأخرى

 

" نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ .. (151)" الانعام

 

وحين نتأمل الآيتين نجد أن لكل منهما معناها الخاص بها وليس فيهما تكرار كما يظن البعض .

ففي الآية الأولى :

 

" وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ..(31)" الآسراء

 

اذن : فالفقر غير موجود والأب يخاف ان يأتي الفقر بسبب الأولاد فهو مشغول برزق الولد لا يرزقه هو لانه غني غير محتاج لذلك قدم الأولاد في عجز الآية كأنه يقول للأب : اطمئن فسوف نرزق هؤلاء الأولاد أولا وسوف ترزق أنت أيضا معهم

أما في الآية الأخرى

 

" وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ .. (151)" الانعام

 

فالفقر في هذه الحالة موجود فعلا وشغل الأب برزق نفسه أولى من شغله برزق ولده لذلك قال في عجز الآية

 

" نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ (151) " الانعام

 

فقدمهم على الأولاد .

اذن : لكل آية معناها الذي لا تؤديه عنها الآية الأخرى .