" أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) "

يريد ان يوبخهم أتظنون أنكم ستخلدون في هذا النعيم وانتم امنون او أنكم تأخذون نعم الله ثم تقرون من حسابه كما قال سبحانه :

" أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) " المؤمنون

 

فمن ظن ذلك فهو مخطئ قاصر الفهم لان الأشياء التي تخدمك في الحياة لا تخدمك بقدرة منك عليها فانت لا تقدر على الشمس فتأمرها ان تشرق كل يوم ولا تقدر على السحاب ان ينزل المطر ولا تقدر لى الأرض ان تعطيها الخصوبة لتنبت ولا تقدر على الهواء الذي تتنفسه .. الخ وهذه من مقومات حياتك التي لا تستطيع البقاء بدونها .

وكان من الواجب عليك ان تتأمل وتفكر : من الذي سخرها لك وأقدرك عليها ؟ كالرجل الذي انقطع في الصحراء وفقد دابته وعليها طعامه وشرابه حتى اشف على الهلاك ثم أخذته سنة أفاق منها على مائدة عليها أطايب الطعام والشراب بالله أليس عليه قبل ان تمتد يده إليها ان يسال نفسه : من اعد لي هذه المائدة في هذا المكان ؟

كذلك انت طرأت على هذا الكون وقد اعد لك فيه كل هذا الخير فكان عليك ان تنظر فيه وفيمن أعده لك فادا جاءك رسول من عند الله ليحل لك هدا اللغز ويخبرك بان الذي فعل كل هدا هو الله وان من صفات كماله كذا وكذا فعليك ان تصدقه .

لانه اما ان يكون صادقا يهديك الى حل لغز حار فيه عقلك وأما هو كاذب – والعياذ بالله وحاشا لله ان يكذب رسول الله على الله –فان صاحب هذا الخلق عليه ان يقوم ويدافع عن خلقه .

ويقول : هذا الرسول مدع وكاذب وهذا الخلق لي فاذا لم يقم للخلق مدع فقد ثبتت القضية لله تعالى الى ان يظهر ن يدعيها لنفسه .

 

" فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)"

 

 وقوله تعالى " " فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)" الشعراء امتداد للآية السابقة يعني : لا تظنوا ان هذا يدوم لكم و(جنات ) : جمع جنة وهي المكان الملئ بالخيرات وكل ما يحتاجه الانسان او هي المكان الذي ان سار فيه الانسان سترته الأشجار لان جن يعني ستر كما في قوله تعالى :

"  فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ .. (76)" الانعام

 أي : ستره .

ومنه الجنون : ويعني : ستر العقل وكذلك الجنة فهي تستر عن الوجود كله وتغنيك عن الخروج منها الى غيرها ففيها كل ما تتطلبه نفسك وكل ما تحتاجه في حياتك .

ومن ذلك ما نسميه الآن ( قصرا ) لان فيه كل ما تحتاجه بحيث يقصرك عن المجتمع البعيد .

وقال بعدها " وَعُيُونٍ (147)" الشعراء لان الجنة تحتاج دائما الى الماء فقال " وَعُيُونٍ (147)" الشعراء ليضمن بقاءها .

 

ثم يقول الحق سبحانه :

" وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) "

 

 النخل من الزروع لكن خص النخل بالذكر لان رسول الله صلي الله عليه وسلم اهتم به وشبهه بالمؤمن في الحديث :

" ان من الشجر شجرة لايسقط ورقها "(1) (1) حديث متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه ( 61 ، 9 مواضع أخرى ) وكدا مسلم في صحيحه (281 ) كتاب صفات المنافقين  واحمد في مسنده ( 2/ 61 ، 123 ) من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما .

قال الراوي : فوقع الناس في شجر البوادي ولم يهتدوا إليها فلما خرج عمر وابنه عبد الله قال : بابي لقد وقع في ظني انها النخلة لأنها مثل المؤمن كل مافيه خير .

نعم لو تأملت النخلة لوجدت ان كل شئ فيها نافع وله مهمة وينتفع الزارع به ولا يلقي منها شئ مهما كان بسيطا فالجذوع تصنع منها السواري والأعمدة وتسقف بها البيوت قبل ظهور الخرسانة ومن الجريد يصنعون الأقفاص والجزء المفلطح من الجريدة ويسمى ( القحف ) والذي لا يصلح للأقفاص كانوا يجعلونه على شكل معين فيصير مقشة يكنسون بها المنازل

ومن الليف يصنعون الحبال ويجعلونه في تنجيد الكراسي وغيرها حتى الأشواك التي تراها في جريد النخل خلقه الله لحكمه وبقدر لأنها تحمي النخلة من الفئران إثناء إثمارها والليف الذي ينمو بين أصول الجريد جعله الله حماية للنخلة وهي في طور النمو وما تزال غضة طرية فلا يحمي بعضها على بعض ز

اذن : هي شجرة خير كالمؤمن وقد تم أخيرا في احد البحوث ان اخذوا الجزء الذي يسمى بالقحف وجعلوه في تربة ناسبة فانبتوا منه نخلة جديدة .

لذلك لما قال ابن عمر : انها النخلة دهب عمر الى رسول الله وحكى له مقالة ولده فقال صلي عليه وسلم " صدق ولدك " فقال عمر ( فوالله ما يسرني ان فطن ولدي إليها ان لي حمر النعم ) (1) . ( 1) قال ابن عمر لابيه عمر : دكرت دلك لعمر " قال :  " لان تكون قلت : هي النخلة " احب الى من كدا وكدا وهو لفظ مسلم وفي رواية عند احمد ( 2/ 123 ) ان عمر قال لابنه : " يا بني " ما منعك ان تتكلم " فوالله لان تكون قلت دلك احب الى من ان يكون لي كدا وكدا " .

والدين يزرعون النخيل يرون فيه ايات وعجائب على قدرة الله تعالى .

ومعنى " طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) " الشعراء هو الكوز الذي تخرج منه الشماريخ في الأنثى ويخرج منه المادة المخصبة في الذكر والتي قال الله عنها :" قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ.. 99 " الانعام وفي الذكر يخرج من الكوز المادة المخصبة للنخلة وللقنوان او الشماريخ أطوار في النمو يسمونه ( الخلا ) فيظل ينمو ويكبر الى ان يصل الى نهايته حدا حيث يجمد على هذه الحالي ويكتمل نموه الحجمي ثم تبدأ مرحلة اللون .

يقولون ( عفر ) النخل : يعني شاب خضرته حمرة او صفرة (1) () العفار : تلقيح النخل واصلاحه وعفر النخل : فرغ من تلقيحه ( لسان العرب – مادة : عفر )  فادا اكتمل احمرار الأحمر واصفرار الأصفر يسمى ( بسر ) ثم يتحول البسر الى الرطب حيث تلين ثمرته وتنفصل قشرته فان كان الجو جافا فان الرطب ييبس ويتحول الى التمر حيث تتبخر مائيته تتماسك قشرته وتلتصق به .

ومعنى " هَضِيمٌ (148) " الشعراء يعني : غض ورطب وطري وهذا يدل على خصوبة الأرض ومنه هضم الطعام حتى يصير لينا مستساغا .

 

ثم يقول الحق سبحانه :

"  وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (2)(149)( ) هده الكلمة فيها قراءتان :

-        فرهين : بغير ألف قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع

-        فارهين : بالف وهي قراءة الباقين قال القرطبي في تفسيره ( 7/ 5009 ) قال أبو عبيد وغيره وهما بمعنى واحد وقال الفراء : معنى فارهين : حادقين والفره : النشيط الاشر والفراهة : النشاط ( انظر لسان العرب مادة : فره )

وحين تذهب الى مدائن صالح تجد البيوت منحوتة في الجبال كما ينحتون الآن الإنفاق مثلا لا يبنونها كما نبني بيوتنا ومعنى " "  فَارِهِينَ ..(149)" الشعراء الفاره : النشط القوي ظاهر الموهبة بقولون : فلان فاره في كذا يعني ماهر فيه نشط في ممارسته .

 

 

 

 فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)"

 

المسرف : هو الذي يتجاوز الحد وتجاوز الحد له مراحل لان الله تعالى احل الأشياء وحرم أشياء وجعل لكل منهما حدودا مرسومة فيما شرع الله ان تتجاوز الحلال فتدخل فيه الحرام .

او : يأتي الإسراف في الكسب فيدخل في كسبه الحرام وقد يلزم الانسان نفسه بالحلال في الكسب لكن يأتي الإسراف في الإنفاق فينفق فيما حرمه الله اذن : يأتي الإسراف في صور ثلاثة : اما في الال وأما في الكسب وأما في الإنفاق .

ونلحظ ان الحق تبارك وتعالى حينما يكلمنا عن الحلال يقول سبحانه :

" تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ..  (229)" البقرة

 اما في المحرمات فيقول سبحانه : " تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا .. (187)" البقرة  أي : ابتعد عنها لانك لا نامن الوقوع فيها ومن حام حول الحمى يوشك ان يقع فيه فلم يقل الحق سبحانه مثلا : لا تصلوا وانتم سكارى انما قال :

 

" لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى .. (43)" النساء

 

 والمعنى خد الحلال كله لكن لا تتعداه الى المحرم اما المحرم فاحذر مجرد الاقتراب منه لان له دواعي ستجذبك اليه .

ونقف عند قوله تعالى :

 

" وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)" الشعراء

 

 حيث لم يقل : ولا تسرفوا وكأن ربنا – عز وجل – يريد ان يوقظ غفلتنا وينبهنا ويحذرنا من دعاة الباطل الدين يزينون لنا الإسراف في أمور حياتنا ويهونون علينا الحرام يقولون : لا باس في هذا ولا مانع من هدا وهدا لي بحرام ربنا يعطينا المناعة اللازمة ضد هؤلاء حتى لا ننساق لضلالتهم ز

لدلك جاء في الحديث الشريف :" استفت قلبك " واستفت نفسك " وان أفتوك وان أفتوك وان أفتوك  (1) . ( ) أخرجه الإمام احمد في مسنده ( 4/ 227 ، 228 ) والدرامي في سننه ( 2/ 246 ) من حديث وابصة بن معبد الاسدي وتمامه ان رسول الله صلي الله عليهوسلم :" يا وابصة " استفت نفسك البر ما اطمان اليه القلب واطمانت اليه النفس والثم ما حاك في النفس وتردد ي الصدر وان افتاك الناس قال سفيان : وافتوك " وفي هدا دليل على انه سيأتي اناس يفتون بغير علم ويزينون للناس الباطل ويقنعوهم به والفتوى من الفتوة والقوة ومنه قوله تعالى

 

" قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) " الأنبياء

 

 وقوله تعالى

" إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) " الكهف

 كذلك الفتوى تعني : القوة في أمر الدين والتمكن من مسائلة وقضاياه وان كانت القوة المادية في أمر الدنيا لها حد تنتهي عنده فان القوة في أمر الدين لا تنتهي الى حد لان الدين امده واسع وبحره لا ساحل له والقوة نعرفها في أي ناحية من النواحي لكن قوة القوى هي القوة في أمر الدين .

نقول فلان فتى يعني : قوي بذاته وافتاه فلان أي : أعطاه القوة كأنه كان ضعيفا في حكم من أحكام الشرع فدهب الى المفتي فافتاه يعني : أعطاه فتوة في أمر الدين مثل قولنا : غنى فلان أي : بذاته وأغناه أي : غيره كما يقول سبحانه :

 

 وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ .. (74)" التوبة

 

  اذن : فمهمة المفتي ان يقوي عقيدتي لا ان يسرف لي في أمر من أمور الدين او يهون علي ما حرم الله فيجرئني عليه وعلى المفتي ان يتحرى الدقة في فتواه خاصة في المسائل الخلافية التي يقول البعض بحلها والبعض بحرمتها يقف عند هذه المسائل وينظر فيها رأي الإسلام المتمثل في الحديث الشريف : " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن ترك ا شبه له – لا من فعل ما شبه له يعني على الأقل نترك ما فيه شبهة – فقد استبرا لدينه – ان كان متدينا- وعرضه – ان لم يكن متدينا " (1) .( ) حديث متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه 2051 وكدا مسلم في صحيحه 1599 من حديث النعمان بن البشير .

اذن : من لم يقف هذا الموقف ويترك ما فيه شبهة لم يستبرئ لدينه ولا لعرضه ومن لم يفت على هذا الأساس من العلماء فإنما يضعف أمر الدين لا يقويه وبدل ان نقول : أفتاه نقول : أضعفه .