{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ(181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ(182)}
الكيل : آلة تُقدّر بها الأشياء التي تُكال ، و وحدته : كَيْلة أو قَدح أو أردب . و الميزان كذلك :آلة يُقدّر بها ما يُوزَن .
و معني: { وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرينَ(181) } [الشعراء] المخسر : هو الذي يتسبب في خسارة الطرف الآخر ف مسألة الكيل ، بأن يأخذ بالزيادة ، و إنْ أعطى يُعطِي بالنقصان . و في الوزن قال { بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ....(182)} [الشعراء]
و القسطاس : يعني العدل المطلق في قدرة البشر و إمكاناتهم في تحرِّي الدّقَة في الوزن ، مع مراعاة اختلاف الموزونات ، فوزن الذهب غير وزن التفاح مثلاً ، غير وزن العدس أو السمسم ، فعليك أنْ تتحرّى الدقة قَدْر إمكانك ، لتحقق هذا القسطاس المستقيم .
لكن ؛ لماذا خصَّ الكيل و الوزن من وسائل التقدير و التقييم ، و لم يذكر مثلاً القياس في المساحات و المسافات بالمتر أو الذراع ؟
قالوا: لأن الناس قديماً –و كانت أمماً بدائية – لا تتعامل فيما يُقاس ، فلا يشترون القماش مثلاً ، لأنه كان يُغزل ، تغزله النساء و يغزله الرجال، و لم يكُنْ أحد يغزل لأحد أو يبيع له ، فهذه صورة حضارية رأيناها فيما بعد .
و قديماً ، كان الناس يتعاملون بالتبادل و المقايضة ، و في هذه الحالة لا يوجد بائع على حدَة و لا مُشْترِ على حدَة ، فلا يتفرد البائع بالبيع ، و المشتري بالشراء ، إلا في حالة مبادلة السلعة بثمن ، كما قال تعالى :
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ..20)} [يوسف]
أي : باعوه .
أما في حالة المقايضة ، فأنت تأخذ القمح تأكله ، و أنا آخذ التمر آكله ، فالانتفاع هنا انتفاع مباشر بالسلعة ، فإنْ قدَّرْتَ أن كل واحد في الصفقة بائع و مشترٍ . تقول : شَرَى و باع . و إنْ قدّرْت الأثمان التي لا ينتفع بها انتفاعاً مباشراً كالذهب و الفضة ، أو أي معدن آخر ، و هذه الأشياء لا تؤكل فهي ثمن ، أمّا الأشياء الأخرى فصالحة أنْ
تكون سلعة ، و صالحة لأنْ تكون ثمناً .
و قد أفرد القرآن الكريم سورة مخصوصة لمسألة الكيل و الميزان هي "سورة المطففين " ، يقول سبحانه :
{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ(1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3)} [المطففين]
نقول : كال له يعني : أعطاه ، و اكتال عليه يعني : أخذ منه . فإن أخذ أخذ وافياً ، و إنْ أعطى أعطى بالنقص و الخسارة . و القرآن لا ينعي عليه أن يستوفي حقّه ، لكن ينعي أن ينقص من حَقِّ الآخرين ، و لو شيئاً يسيراً .
فمعنى ( المطففين ) من الشيء الطفيف اليسير ، فإذا كان الويل لمن يظلم في الشيء الطفيف ، فما بال مَنْ يظلم في الكل ؟
فاللوم هنا لمَنْ يجمع بين هذين الأمرين : يأخذ بالزيادة و يُعطي بالنقص ، أما مَنْ يعطي بالزيادة فلا بأس ، و جزاؤه على الله ، و هو من المحسنين الذين قال الله فيهم :
{ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ...(91) } [التوبة]
و مع تطور المجتمعات بدأ الناس يهتموُّن بقياس دقة آلات الكيل و الوزن و القياس ، فَوُجِدت هيئات متخصصة في معايرتها و التفتيش عليها و متابعة دِقّتها ، لأنها مع مرور الزمن عُرْضة للنقص أو الزيادة ، فمثلاً سنجة الحديد – التي نزن بها قد تزيد إنْ كانت في مكان بحيث تتراكم عليها الزيوت والتراب ، وقد تنقص بالحركة مع مرور الوقت ، كما تنقص مثلاً أكرة الباب من كثرة الاستعمال، فتراها لامعة ، ولمعانها دليل النقص ، وإنْ كان يسيراً.
و في فرنسا ، نموذج للياردة وللمتر من معدن لا يتآكل ، جُعِلَتْ كمرجع يُقاس عليه ، وتُضبط آلات القياس.
ورأينا الآن آلات دقيقة جداً للوزن وللقياس، تضمن لك منتهى الدقة، خاصة في وزن الأشياء الثمينة؛ لذلك نراهم يضعون الميزان الدقيق في صندوق من الزجاج ، حتى لا تُؤثر فيه حركة الهواء من حوله .