إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227)

 ثم يستثني الحق سبحانه وتعالي من هؤلاء الغاوين :

كان بعض شعراء المشركين أمثال عبدالله بن الزبعري ,ومسافح الجمحي يهجون رسول الله _صلي الله عليه وسلم _ويذمونه  ,فيلتف الضالون الغاوون من حولهم  ويشجعونهم و يستزيدونهم  من هجاء رسول الله  ,وفي هؤلاء نزل قوله تعالي (

وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ(224)

فأسرع الي سيدنا رسول الله شعراء الاسلام :عبدالله بن رواحه وكعب بن زهير  ,وكعب بن مالك  , وحسان بن ثابت , فقالوا:أنحن من هؤلاء يا رسول الله ؟ فقرأ عليهم رسول الله هذه الايه :

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227

فاستثني الحق _تبارك وتعالي _ من الشعراء من توفرت فيه هذه الخصال الاربع

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا

أي :ذكرو ا الله في اشعارهم  لينبهو الناس الي مواجيد الدين ومواعظ الايمان ,فيلتفتون اليها  ثم ينتصرون لرسول الله من الذين هجوه

وكان هؤلاء الثلاثه ينتصرون للإسلام ولرسول الله , فكلما هجاه الكفار  ردو  عليهم  ,وأبطلو  ا حججهم , ودافعوا  عن رسول الله   ,حتي أنه _صلي الله عليه وسلم نصب  منبرا (1) لحسان بن ثابت  وكان يقول له : قل وروح القدس معك  اهجهم وجبريل معك (2)

وقال لكعب بن مالك (3)  (اهجهم فإن كلامك اشد عليهم من  رشق النبال(4)

  

(1) _ اخرج الحاكم ي مستدركه _3\487 )عن عائشه رضي الله عنها قالت : كان رسول الله  _صلي الله عليه وسلم _ يضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله _صلي الله عليه وسلم _ ويقول  _صلي الله عليه وسلم _  (ان الله يؤيد حسان بن ثابت بروح القدس  منا نافح او فاخر عن رسول الله _صلي الله عليه وسلم _

وكذا اخرجه ابو داوود في سننه (5005)

(2) _ أخرجه البخاري في صحيحه (3213\6153) ,وكذا مسلم في صحيحه (2486 ) كتاب فضائل الصحابه من حديث البراء بن عازب

 (3) _ هو :كعب بن مالك بن عمرو  الانصاري السلمي الخزرجي  ,صحابي من أكابر الشعراء من أهل المدينه اشتهر في الجاهليه  وكان في الاسلام من شعراء النبي _صلي الله عليه وسلم _ عمي في اخر عمره ,وعاش 77 سنه  توفي 50 هه (كتاب الاعلام للزركلي )

(4)_ اخرجه مسلم في صحيحه (2490) كتاب فضائل الصحابه

كما سمح  لهم بإلقاء الشعر في المسجد  ,لانهم دخلوا في هذا الاستثنالء ,فهم من اللذين آمنوا  ,وعملو الصالحات وذكروا الله كثيرا  ,وهم اللذين ينتصرون للاسلام ويمجدون رسول الله  ويدافعون  عنه ويردون عنه السنه الكفار .

 ومعني  :

وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا

 انهم لم يكونو سفهاء  ولم يبدأوا الكفار بالهجاء  ,إنما ينتصرون لأنفسهم ويدفعون ما وقع علي الاسلام من ظلم الكافرين , لذلك لما هجا ابو سفيان  رسول الله _صلي الله عليه وسلم _قال احدهم (2) رداً عليهم :

أتهجوه ولست له بكفء          فشركما لخيركما الفداء

 

فإن أبي ووالده وعرضي           لعرض منحمد منكم وقاء

 

وقوله تعالي :

 

وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا

 

ظلموا ممن ؟ من اللذين وقفوا من الدين ومن الرسول موقف العداء  وتعرضوا لرسول الله وللمؤمنين به بالإيذاء والكيد  ,ظلموا من اللذين عزلوا رسول الله , وآله في الشعب حتي أكلوا أورراق الشجر من اللذين تآمروا علي قتله _صلي الله عليه وسلم _ إلأي ان هاجر

 

ومن رحمته تعالي وحكمته ان اباح للمظلوم ان ينتصر لنفسه , وان ينفس عغنها ما يعانيه من وطأه الظلم  ,حتي لا تكبت بداخله  هذه المشاعر  ولابد لها ان تنفجر  ,فقال سبحانه

 وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ(126)

النحل

(2) _هو حسان بن ثابت كما جاء في صحيح مسلم (2490 )كتاب فضائل الصحابه وفيه ان ابياته كالاتي :

 

هجوت محمدا فأجبت عنه               وعند الله في ذاك الجزاء

  هجوت محمدا براً حنيفاً              رسول الله شيمته الوفاء

فإن أبي ووالده وعرضي             لعرض محمد منكم وفاء

 

وانظر ايضا دلائل النبوه للبيهقي (5\49048)

  

لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً(148)وقال تعالي  :

النساء

  

فأباح للمظلوم أن يعبر عن نفسه ,وأن يرفض الظلم  ولا عليه ان جهر بكلمه تخفف عنه ما يشعر به من ظلم .

ثم تختم السوره بقوله تعالي :

وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227)

 

يعني :غداً سيعلمون مرجعهم ونهايتهم كيف تكون ؟ والمنقلب هو  المرجع والمآب والمصير  الذي ينتظرهم .

 فالحق _تبارك وتعالي _ يتوعدهم بما يؤذيهم  وبما يسوؤهم  فلن تنتهي المسأله بإنتصار المسلمين عليهم  إنما ينتظرهم جزاء آخر في الآخره .

كما قال سبحانه في موضع آخر

 وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(47)

الطور

لذلك ابهم الله تعالي  هذا المنقلب ,وإبهامه للتعظيم والتهويل وقد بلغ من العظم  أنه لا يوصف ولا تؤدي العباره مؤداه ,كما أبهم العذاب في قوله تعالي (فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ(78)

(طه

 

يعني :شيء عظيم لا يقال  والابهام هنا ابلغ لان العقل يذهب في تصوره كل مذهب وعلي كل كيفيه .

 

والمنقلب او المرجع لا يمدح في ذاته  ولا يذم في ذاته  فإن إنتهي الي السوء فهو منقلب سيء وإن إنتهي إلي خير فهو منقلب حسن فالذي نحن بصدده من منقلب الكافرين المعاندين لرسول الله منقلب سيء يُذم .

أما منقلب سحرة فرعون مثلاً حين قال لهم

قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى(71)

طه

فماذا قالوا ؟

قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ(50)

الشعراء

فهذا منقلب حسن يمدح ويحمد

 

وقد يظن المرء أن منقلبه منقلب خير وأنه سينتهي إلي ما يُفرح , وهو واهم مخدوع في عمله ينتظر الخير  ,والله تعالي يعد له منقلب آخر  كالذي اعطاه اللهخ الجنتين من اعناب وحففهما بنخل وجعل بينهما زرعا فلما غرته نعمه الدنيا ظن ان له مثلها أوخيرا منها  في الاخره فقال :

وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً(36)

الكهف

 والانقلاب والمرجع الي الله _عزوجل _إنما يفرح به من آمن بالله وعمل صالحاً لأنه يعلم أنه سيصير إلي جزاء من الحق _سبحانه وتعالي _مؤكد لذلك الحق _تبارك وتعالي _يعلمنا حين نركب الدواب التي تحملنا :

 

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(7)

النحل

علمنا ان نذكره سبحانه :

 

ا( وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ(12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ(13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ(14)

الزخرف

 

إذن :فالدواب وما يحل محلها الان من وسائل المواصلات من اعظم نعم الله علينا  ولولا ان الله سخر  سخرها لنا ما كان لنا قدره عليها  ولا طاقه بتسخيرها , لذلك نقول

 (  وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ(13)       الزخرف

 

 

 

 

 

  

أ ي : لا نستطيع ترويضه ,فالصبي الصغير  نراه يقود الجمل الضخم ,وينيخه ويحمله الاثقال وهو طائع منقاد , لكنه يفزع إن رأي  ثعباناً صغيراً , لماذا ؟ لأن الله _سبحانه وتعالي _ سخر لنا الجمل وذلله , ولم يسخر لنا الثعبان  .

وصدق الله العظيم إذ يقول سبحانه :

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ(71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72)

يس

ولكن ما علاقه قولنا:

سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ(13)

الزخرف

بقولنا :

وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ(14)

الزخرف

قالوا: لأننا سننقلب إلي الله في الآخره ,وسنسأل عن هذا النعيم ,فإن شكرنا ربنا علي هذه النعمه فقد أدينا حقها ومن شكر الله  علي نعمه في الدنيا  لا يسأل عنها في الآخره  لأنه أدي حقها .

وقال سبحانه :( وَسَيَعْلَمُ ......227)                  الشعراء

بالسين الداله علي الاستقبال ,لكنها لا تعني طول الزمن كما يظن البعض  ,لأن الله تعالي أخفي الموت ميعاداً ,واخفاه سبباً ومكاناً وهذا الابهام للموت هو عين البيان لأنك في  هذه الحاله ستنتظره وتتوقعه في كل وقت ,ولو علم الانسان موعد موته لقال :أفعل ما أريد ثم أتوب قبل  أن أموت .

إذن :الوقت الذي تقتضيه  السين هنا لا يطول ,فقد يفاجئك الموت , وليس بعد الموت عمل او توبه ,واقرأ قوله تعالي :

كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا(46)

النازعات

 

وقلنا إن في الايه:       ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227

الشعراء

تهديداً ووعيداً ,الحق _تبارك وتعالي _ حين يضخم الوعيد إنما يريد الرحمه بخلقه وهو محب لهم فيهددهم الان ليسلموا غدا ,وينبههم ليعودو  إليه ,فينالوا جزاءه ورحمته .

وكأنه _تبارك وتعالي _يريد من وراء هذا التهديد أن يوزع رحمته لا جبروته ,كما تقسو علي ولدك ليذاكر وتهدده ليجتهد .

إذن :فالوعد بالخير  خير ,والوعيد بالشر ايضاً خير  ,فكل ما يأتيك من ربك فأعلم أنه خير لك ,حتي وان كان تهديدا ووعيداً.

 

وهكــــــــــــــــــذا  قدمت لنا سورة الشعراء نموذجاً من تسليه الحق _تبارك وتعالي _ لنبيه محمد _صلي الله عليه وسلم والتخفيف عنه ما يلاقي من حزن وألم علي حال قومه وعدم إيمانهم , وعرضت عليه _صلي الله عليه وسلم _ موكب الرسل   وكيف أن الله أيدهم ونصرهم وهزم أعداءهم ودحرهم .

ثم سلاّه ربه بأن رد علي الكفار في افتــــــراءاتهم ,وابطل حججهم ,وأبان زيف قضاياهم  ,ثم تختم  هذه التسليه ببيان ان للظالمين عاقبه سيئه تنتظرهم وأبهم هذه العاقبه

أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227)

ليضخمــــــــــــــــها .

والشيء إذا حدد إنما يأتي علي لون واحد وإن أُبهم كان أبلغ ,لأن النفس تذهب في تصوره كل مذهب كما لو تأخر مسافر عن موعد عودته فنجلس ننتظره في قلق تسرح بنا الظنون في سبب تأخره , وفي احتمالات ما يمكن أن يحدث وتتوارد علي خواطرنا الاوهام ,وكل وهم يرِد في نفسك بألم ولذعه ,في حين أن الواقع شيء واحد .