وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)

 

جاء هذا القول بعد أن تكلم سبحانه عن القتال لتثبيت امر الدعوة، ولما كان القتال يتطلب قتل نفس مؤمنة نفساً كافرة، ناسب ذلك أن يتكلم الحق سبحانه عن القتل.

 

والقتل-كما نعلم-محاولة إزهاق روح الحى بنقض بنيته. والحى وإن لم ننقض بنيته حين يأتى أجله يموت .إذن فنقض البنية من الإنسان الذى يريد أن يقضى على إنسان عملٌ غايته إنهاء الحياة، فلا يظنن ظان أن القاتل الذى اراد أن ينقض بنية شخص يملك أن ينهى حياته، ولكنه يصادف انقضاء الحياة، فالذى ينهى الحياة هو الحق سبحانه وتعالى. ولذلك قلنا: إن الجزاء إنما وقع على القاتل لا لأنه أمات القتيل ولكن لأن القاتل تعجل فى أمر استأثر الله وحده به، والقتيل ميت باجله، فالحق سبحانه وتعالى هو الذى استخلف الإنسان فى الكون، والاستخلاف شرحه الحق فى قوله:  (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)

من الآية 61 سورة هود

فالله هو الذى جعل الإنسان خليفة فى الكون ليعمر هذا الكون، وعمارة الكون تنشأ بالتفكير فى الارتقاء والصالح فى الكون، فالصالح نتركه صالحاً، وإن استطعنا أن نزيد فى صلاحه فلنفعل.

 

الأرض-على سبيل المثال-تنبت الزرع، وإن لم يزرعها الإنسان فهو يجد زرعاً خارجاً منها، والحق يريد من الإنسان لأن ينمى فى الأرض هذه الخاصية فيأتى الإنسان بالبذور ويحرث الأرض ويزرعها. فهذا يزيد الأمر الصالح صلاحاً. وهذا كله فرع وجود الحياة.

 

إذن فالاستخلاف فى الأرض لإعمارها يتطلب حياة واستبقاء حياة للخليفة ومادام استبقاء الحياة أمراً ضرورياَ فلا تأنى أيها الخليفة لخليفة آخر مثلك لتنهى حياته فتعطل إحياءه للأرض واستعماره لها. فالقتال إنما شُرع للمؤمنين ضد الكافرين؛ لأن حركة الكافرين فى الحياة حركات مفسدة، ودرء المفسدة دائما مقدم على جلب المصلحة. فالذى يفسد الحياة يقاتله المؤمنون كى ننهى الحياة فيه، ونُخَلَص الحياة من معوق فيها.

 

إذن فيريد الحق أن تكون الحياة لمن تصلح الأرض بحياته، والكافرون يعيثون فى الأرض فساداً، ويعيشون على غير منهج، ويأخذون خير الضعيف ليصيروا هم به أقوياء، فشرع الله القتال إما ليؤمنوا فيخضعوا للمنهج، وإما ليخلص الحياة من شرهم- فإذا ما وجه الإنسان القتل لمؤمن – وهو فى ذاته صالح للاستعمار فى الحياة- يكون قد جنى على الحياة، وأيضاً لو قتل الإنسان نفسه يكون قد جنى على الحياة كذلك، لماذا؟ لأنه أفقد الحياة واحداً كان من الممكن أن يعمر بحركته الأرض.

 

فإن اجترأ على حياته أو على حياة سواه فلابد أن نؤدبه. كيف؟ قال سبحانه:

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا)

من الآية 27 سورة يونس

والتشريع الإسلامى وضع للقاتل عن سبق إصرار وترصد عقاباً هو القتل. وبذلك يحمى التشريع الحياة ولا ينمى القتل، بل يمنع القتل. إذن، فالحدود والقصاصات إنما وضعت لتعطى الحياة سعة فى مقوماتها لا تضييقا فى هذه المقومات، والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن القتال المشروع أراد ان يوضح لنا: إياكم أن تتعدوا بهذه المسألة، وتستعلموا القتال فى غير الأمر المشروع، فإذا ما اجترأ إنسان على إنسان لينهى حياتته فى غير حرب إيمانية شرعية فماذا يكون الموقف؟

 

يقول التشريع: إنه يقتل، وكان يجب أن يكون فى بالك ألا تجترئ على إزهاق حياة أحد إلا أن يكون ذلك خطأ منك، ولكن إن أنت فعلت خطأ نتج عنه الأثر وهو القتل. فماذا يكون الأمر؟ هناك منفعل لك وهو القتيل وأنت القاتل ولكن لم تكن تقصده، هما-إذن – أمران: عدم القصد فى ارتكاب القتل الخطأ، والأمر الثانى هو حدوث القتل.

 

يقول التشريع فى هذه المسالة: إن القاتل بدون قصد قد ازهق حياة إنسان وحياة هذا الإنسان لها ارتباطات شتى فى بيئته الإيمانية العامة، وله ارتباطاته ببيته الأهلية الخاصة كعائلته، العائلة له أو العائل لها أو الأسره أو الأقرب من السره وهو الصل والفرع، فكم دائرة إذن؟ دائرة إيمانية عامة، ودائرة الأهل فى عمومها الواسع، ودائرة الأسرة، ودائرة خصوصية الأسرة فى الأصل والفرع. وحين تنهى حياة إنسان فى البيئة الإيمانية العامة فسوف تتأثر هذه البيئة بنقصان واحد مؤمن خاضع لمنهج الله ومفيد فى حركته؛ لأن الدائة الإيمانية فيها نفع عام.

 

لكن الدائرة الأهلية يكون فيها نفع خاص قليلاً والدائرة الأسرية نجد أن نفعه فيها كان خاصا بشكل ما، وفى الأصل والفرع نجده نفعا مُهِماً وخاصاً جداً. إذن فهذا القتل يشمل تفزيعاً لبيئة عامة ولبيئة أسرة ولبيئة أصل وفرع.

 

ولذلك أريد أن تلاحظوا فى أحداث الحياة شيئا يمر علينا جميعا، ولعل كثيراً منا لا يلتفت إليه، مع أنه كثير الحدوث، مثلاً: إذا كنا جالسين فى مجتمع وجاء واحد وقال : "فلان مات"، وفى هذا المجتمع أناس يعرفونه معرفة عامة. وآخرون يعرفونه معرفة خاصة ولهم به صله، وأناس من أهله، وفيه والد الميت أو ابنه، انظروا إلى أثر النعى أو الخبر فى وجوه القوم، فكل واحد سينفعل بالقدر الذى يصله ويربطه بمن مات. فواحد يقول: " يرحمه الله " وثانٍ يتساءل بفزع : " كيف حدث ذلك "؟ وثالث يبكى بكاء مراً، ورابع يبكى جارياً ليرى الميت. الخبر واحد فلماذا يتعدد أثر وصدى الانفعالات، ولماذا لم يكن الانفعال واحداً؟

 

نقول: إن الانفعال إنما نشأ قهراً بعملية لا شعورية على مقدار نفع الفقيد لمن ينفعل لموته؛ فالذى كان يلتقى به لماماً ويسيراً فى أحايين متباعدة يقول:"رحمه الله". والذى كان يجالسه كل عيد يفكر فى ذكرياته معه، وحتى نصل غلى أولاده فنجد أن المتخرج الموظف وله أسرة يختلف انفعاله عن الخريج حديثاً أو الذى يدرس، أو البنت الصغيرة التى مازالت تتلقى التعليم، هؤلاء الأولاد يختلف تلقيهم للخبر بانفعالات شتى، فالابن الذى له أسرة وله سكن يتلقى الخبر بانفعال مختلف عن الابن الذى مازال فى الدراسة، وانفعال الابنة التى تزوجت ولها أسرة تختلفعن انفعال الابنى التى لم تجهز بعد.

إذن فالانفعال يحدث على مقدار النفعية ، ولذلك قد نجدها على صديق أكثر مما نجدها على شقيق. وقالوا: من أحب إليك، أخوك أم صديقك؟. فقال: النافع. إذن تلقى خبر انتهاء الحياة يكون مختلفاً، فالحزن عليه والأسف لفراقه إنما يكون على قدر إشاعة نفعه فى المجتمع.

 

فالذى تجد المجتمع كله هائجاً وثائراً وحزيناً لفراقه كان نافعاً للمجتمع كله، والذى تبكى عليه أسرته فقط نقول: إنه كان على قدر نفعه لأسرته وأولاده، وقد يموت واحد ولا يحس أحد أن الكون قد نقص. وهذا هو السبب فى انهم أرادوا أن يجعلوا لكل واحد وطناً. وقالوا : إن أوطان الناس على قدر همتهم. فواحد ليس له وطن غلا نفسه فقط؛ يرى كل شئ لنفسه ولا يرى نفسه لأحد حتى ولو كانوا أولاده.

 

وهناك واحد يكون وطنه اسرته يعمل على قدر نفعها، وواحد يكون وطنه عائلته وقريته، وواحد وطنه أمته. وواحد وطنه العالم كله. إذن فعندما يفجع المجتمع فى واحد فالهزة تاتى على قدر وطنه، وعندما يفاجأ الناس بواحد يُقتل عن طريق الخطأ فالفاعل معذور. ولكن عذره لم يمنع أن تعدى فعله وأن الآخر قد قتل؟. فالثر قد حصل، وتحدث الهزة لللأقرب له فى الانتفاع، ولأن القتل خطأ فلن يتم القصاص من القاتل، ولكن عليه أن يدفع دية، وهذه الدية توزع على الناس الذين تأثروا بفقدان حياته؛ لأن هناك قاعدة تقول:"بسط النفع وقبض الضر" .

 

إنك ساعة ترى شيئاً سينفعك فإن النفس تنبسط ، وعندما ترى شيئاً سيضرك فغن النفس تنقبض. وعندما ياتى للإنسان خبر موت عزيز عليه فغن النفس تنقبض، وساعة ياتيه من بعد ذلك خير وهو حصوله على جزء من دية القتيل فالنفس تنبسط، وبذبك يتم علاج الثر الحادث عن القتل الخطأ.

 

والدية بحكم الشرع تاتى من العاقلة، وبشرط ألا ت}خذ من الأصول والفروع، فلا تجتمع عليهم مصيبة فقد إنسان على يد أحد من اصولهم أو فروعهم وهو بذلك يفزعون فلا يجمع عليهم هذا المر مع المشاركة فى الدية. كان التشريع أراد أن يعالج الهزة التى صنعها انحراف بعلاج هو وقاية من رد الفعل فيحقق التوازن فى المجتمع. فمن يقتل خطأ لا يقتص منه المجتمع ولكن هناك الدية. ومن أجل إشاعة المسئولية فالقاتل لا يدفعها، ولكن تدفعها العاقلة؛ لأن العاقلة إذا ما علمت أن من يجنى من أهلها جناية وأنها ستتحمل معه فإنها تعلِم أفرادها فن صيانة حقوق غيرهم؛ لأن كل واحد منها سيدفع ، وبذلك يحدث التوازن فى المجتمع.

 

والحق سبحانه وتعالى يعلمنا أن نستبعد ان يقتل مؤمن مؤمناً إلا عن خطأ، فلا يستقيم أن يحدث ذلك عمدا فيقول:" وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ"

ومعنى هذا أن مثل هذا القتل لا يصح أن يحدث عن قصد؛ لأن اللُحمة –بضم اللام- الإيمانية تمنع هذا. لكن إن حدث هذا فما العلاج؟. "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله".

 

ولا يذكر سبحانه هنا القصاص ، فالقصاص قد تقدم فى سورة البقرة فى قوله تعالى:

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى )

(من الآية 178 سورة البقرة)

والقصاص حق الولى فله أن يعفو أو أن يأخذ الدية، كأن يقول : عفوت عن القصاص إلى الدية. ويجب أن نفرق بين الحد وبين القصاص . فالقصاص حق الولى، والحد حق الله. وللولى أن يتنازل فى القصاص، أما الحدود فلا يقدر أحد أن يتنازل عنها، لأنها ليست حقاً لأحد ولكنها حق لله.

 

إذن فالقتل الخطأ قال فيه:" فتحرير رقبة مؤمنة " وهنا قد نسأل : وماذا يستفيد أهل المجنى عليه بالقتل من تحرير رقبة مؤمنة؟. هل يعود ذلك على أهل القتيل ببسط فى النفعية؟. قد لا تفيدهم فى شئ، لكنها تفيد المجتمع؛ لأن مملوك الرقبة وهو العبد أو الأمة هو مملوك لسيده؛ والسيد يملك حركة العبد، ولكن عندما يكون العبد حراً فهو حر الحركة؛ فحركة العبد مع السيد محدودة، وفى حريته حركة مفيدة للمجتمع.

 

إذن فالقبض الذى حدث من قتل نفس مؤمنة يقابلها بسط فى حرية واحد كان محكوماً فى حركته فنقول له: انطلق فى حركتك لتخدم كل مجتمعك. ويريد الحق بذلك أن يفتح مصرفاُ لحرية الأرقاء ضمن المصارف الكثيرة التى جعلها الإسلام لذلك.

 

وبعد هذا القول " ودية مسلمة إلى أهله" لكى تصنع البسط فى نفوس اهله ليعقب القبض نتيجة خبر القتل. ولذلك نجد اسرة فجعت فى أحد افرادها بحادثة وعاشوا الحزن أياماً ثم ياخذون الأوراق ويصرفون بها الدية أو التعويض، مما يدل على أن فى ذلك شيئاً من السلوى وشيئاً من التعزية وشيئاً من التعويض، ولو كانت المسالة مزهزداً فيها لقالوا:"نحن لانريد ذلك"، ولكن ذلك لا يحدث.

 

وبعد ذلك نجد الذى فقد حياة حبيب لا يظل فى حالة حزن ليفقد حياة نفسه، ففى الواقع يكون الحزن من الحزين على نفسه بمقدار مافات عليه من نفع عندما قُتل له القتيل، والحزين إنما حزن لأن القتيل كان يثرى حياته، فلما مات صارت حياة النفع منه بلا إثراء.

 

ولو رأينا إنساناً يحزن لفقد واحد وقلنا له: احتفظ بجثمانه لمدة اسبوع لترتوى من أشواقك إليه، وبعد ذلك نأخذه منك لندفنه أيرضى؟. لن يرضى أبداً بذلك. أو نقول للحزين: " لن نقدم لط طعاماً لمدة أسبوع لأنك فى حالة حزن هنا لن يوافق الحزين، وزوجة الفقيد تذرف عيناها الدمع وتبكى عليه لكنها تأكل وتشرب.

 

إذن فالمسألة يجب أن تكون واضحة لاستقبال اقضية الحق وهى أقضية لا تنقض نواميس الله فى الكون. وبعد ذلك يريد الحق أن يشيع التعاطف بين الناس، فغذا قال أهل القتيل لأهل القاتل: نحن لانريد دية، لأن مصيبتكم فى القتيل مثل مصيبتنا فيه، وكلنا إخوة فما الذى يجرى فى المجتمع؟ . الذى يحدث من النفع هو أضعاف أضعاف ما تؤديه الدية ، إذن فهذا تربيب للدية ، فساعة يعرف الطفل فى العائلة أنه كان مطلوباً منهم دية لأن أباه قد قَتَل، وعفا أهل القتيل فلم يأخذوا الدية، هذا الطفل سيعرف عندما يشبُ ويعقل الأمور أن كل خير عند أسرته ناتج من هذا العفو وهذه العفة، فيحدث الود.

 

إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يربب إشاعة المودة والصفاء والنفعية. فإذا ما حزن واحد لفقدان إنسان بالقتل الخطأ قد يأخذ الدية فينتفع، وإن لم يأخذها فهو ينتفع أكثر؛ لذلك يقول الحق :" ودية مسلَمة إلى أهله إلا أن يصدقوا"

 

وهذا ما يحدث إذا ما قتل مؤمن مؤمناً خطأ فى بيئة إيمانية ، ولكن مالذى يحدث عندما يتم قتل مؤمن لواحد من قوم أعداء والمقتول مؤمن ويعيش بين الكفار؟. هانحن أولاء نرى عدالة التشريع الإلهى، وحتى نزداد يقيناً بأن الله هو رب الجميع ؛ لذلك قال الحق :"فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن " أى كان المقتول من قوم فى حالة عداء مع المسلمين فهو لا يستحق الدية؛ لأنه يحيا فى قوم كافرين.

 

هكذا نجد التشريع هنا قد شرع لثلاث حالات: شرع لواحد فى البيئة الإيمانية، وشرع لةاحد مؤمن فى قوم هم اعداء للمؤمنين، وشرع لواحد قد قُتل وهو من قوم متحالفين مع المسلمين . وكل واحدة لها حكم، والحكم فى حالة أن يكون القتيل من قوم بينهم وبين المسلمين عداء وهو مؤمن، فتحرير رقبة مؤمنة، وذلك للتعويض الإيمانى فينطلق عبد كان محدود الحركة لأن هناك من مات وانتهت حركته، وفى هذا تعويض للمجتمع عندما تشيع حركة العبد. وماذا نفعل فى الدية؟. لا يأخذون الدية؛ لأن الدية موروثة، وهو من الكفار وليس بين الكفار والمسلمسن توارث لأى فليس هنا دية.

 

وعندما ننظر إلى قول الحق:"فإن كان من قوم عدو لكم" نجد ان كلمة "عدو" مفردة فى ذاتها، ولمنها تشمل كل القوم، وفى اللغة نقول: "هم عدو" و"هما عدو" و" هم عدو" وإن تنوعت عداوتهم فهم اعداء، ولكن عندما يتحد مصدر العداء فهم عدو واحد. والحق يقول: " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحيري رقبة مؤمنة " ولم يورد سبحانه هنا الدية لأن القوم على عداء للإسلام فلا دية لهم؛ لأنه لا توارث.

 

ويقول الحق: " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلَمةً  إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة " فإذا أعطى المسلمون قوماً عهداً من تاعهود فلا بد من الوفاء.

هذا الوفاء يقتضى تسليم دية لأهله؛ لأن هذا احترام للعهد، وإلا فما الفارق بيننا وبينهم... والدية- كما نعلم- تدفعها العاقلة، ويقول الحق فى بيان حق الله فى أمر القتل خطأ: " وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله "

أى فمن لم يجد الرقبة أو لم يتسع ماله لشرائها فصيام الشهرين بكل أيامهما، فلا يفصل بينهما إلا فاصل معذر كأ يكون القاتل – دون قصد – على مرض أو على سفر. وبمجرد أن ينتهى المرض أو السفر فعليه استكمال الصوم.

 

ولماذا قال الحق:" توبة من الله "؟. والتوبة – كما نعرف- قد تكون من العبد فنقول:" تاب العبد ".

 

وقد تسند التوبة إلى الحق فيقال:" تاب الله عليه " ومراحل التوبة ثلاث: حين يشرع الله التوبة نقول: تاب الله على العباد فشرع لهم التوبة فلا أحد يتوب إلا من باطن أن الله شرع التوبة؛ لأنه لو لم يشرع الله التوبة لتراكمت على العباد الذنوب والخطايا.

 

وتشريع التوبة هو تضييق شديد لنوازع الشر، فلو لم يشرع الله التوبة لكان كل من ارتكب ذنباً يعيث فى الأرض بالفساد. فحين شرع الله التوبة عصم المجتمع من الأشرار. فلأنه شرَع التوبة، فهو- سبحانه- يتوب، هذه هى المرحلة الأولى. ومادام الله قد شرع التوبة فالمذنب يتوب، هذه هى المرحلة الثانية، وساعة شرع الله التوبة ويتوب المذنب فالله يقبل التوبة، هذه هى المرحلة الثالثة.

 

وهكذا نرى دقة القرآن حين قال:

 

( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ  )

(من الآية 118 سورة التوبة)

 

وبعد أن يتوبوا فإن الله يقبل التوبة عن عباده.

 

إذن فالتوبة الأولى من الله تشريع. والتوبة الثانية من الله قبول، والوسط بينهما هى توبة الإنسان.

 

ويذيل الحق الآية:" توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً " فسبحانه يشرع التشريع الذى يجعل النفوس تحيا فى مُناخ طبيعى وفى تكوينها الطبيعى، فلو تصورنا أن إنساناً قد قُتل خطأ وتركنا أهل المقتول بلا ترضية فلن يستفيد المجتمع الإيمانى من قتله.

 

إذن فالعلم من الله بالنفس البشرية جعل من قتل خطأً يُفيد المجتمع الإيمانى بتحرير رقبة، فيزيد المجتمع إنساناً حراً يتحرك حركة إيمانية؛ لذلك اشترط الحق أن تكون الرقبة مؤمنة، حتى نظمن أن تكون الحركة فى الخير ، فنحن لا نحرر رقبة كافرة؛ لأن الرقبة الكافرة عندما تكون مملوكة لسيد فشرها محصور، لكن لو أطلقناها لكان شرها عاماً. وبعد تحرير الرقبة هناك الدية لننثرها على كل مفزع فى منفعته فيمن قُتل، ولا نأخذها من أصول القاتل وفروعه، فلا نجمع عليهم مصيبتين القتل الذى قام به أصلهم أو فرعهم؛ لأن ذلك-لاشك – سيصيبهم بالفزع والخوف والاشفاق على من جنى منهم . وأن يشتركوا فى تحمل الدية. وذلك العمل ناشئ عن حكمة. فغذا كان الذى يضع الأشياء فى موضعها هو خالقها، فلن يوجد أفضل من ذلك لتستقيم الأمور.

 

وفى المجال البشرى نجد أن أى آلة من الآلآت – على سبيل المثال- مكونة من خمسين قطعة، وكل قطعة ترتبط بالأخرى بمسامير أو غير ذلك، ومادامت كل قطة فى مكانها فالآلة تسير سيراً حسناً، أما إذا توقفت الآلة فإننا نستدى المهندس ليضع كل قطعة مكانها، وكل شئ حين يكون فى موضعه فالآلة تمشى باستقامة، وكل حركة فى الوجود مبنية على الحكمة لا ينشأ فيها فساد؛ فالفساد إنما ينشأ من حركات تحدث بدون أن تكون على حكمة . والحكمة مقولة بالتشكيك، فهناك حكيم وهناك أحكم. وقديماً- على سبيل المثال- كنا نرى الأسلاك الكهربائية دون عوازل فكان يحدث منها " ماس " كهربائى. وعندما اكتشفنا العوازل استخدمناها وعدلنا من تصنيعنا للأشياء. وكا نجد الأسلاك فى السيارة – مثلاً – ذات لون وحجم واحد، فكان يحدث الارتباك عند الإصلاح، لكن عندما تمت صناعة كل سلك بلون معين، فسهل هذا عملية الإصلاح.

 

فالحكمة هى وضع الشئ فى موضعه، فما بالنا حين يكون من يضع الشئ فى موضعه هو خالقنا؟ لن نجد أفضل ولا أحسن من ذلك.

 

فإذا ما رأينا خلاص فى مجتمع فلنعلم أن هناك شيئاً قد ناقض حكمة الله. وعندما نبحث عن العطب سوف نجده، تماماً مثلما تبحث عن العطب فى أى آلة وتأتى لها بالمهندس الذى يصلحها. ويجب أن نرده إلى من خلق المجتمع، ونبحث عن علاج الخلل بحكم من أحكام الله. ولذلك أرشدنا الحق إلى أننا إن اختلفنا فى شئ فلنرده إلى الله وإلى الرسول حتى لا ظل فى تعب.

 

وبعد ذلك يتكلم الحق عن القتل العمد، وقد يقول قائل: أما كان يجب أن يحدثنا الله عن القتل العمد أولاً؟ ونقول: الحق لو تكلم عن القتل العمد أولاً لكان ذلك موحياً أنه يحدث أولاً، ولكن الحق يوضح: لا يصح أن تأتى هذه على خيال المؤمن.

 

ويسأل سائل: لماذا لم يقل الحق: " وما كان لمسلم " . ونقول : يجب أن ننتبه إلى أن الحق نادى المؤمن لأن الإيمان عمل قلبى، ولهذا كان النداء للمؤمنين ولم يكن النداء للمسلمين؛ لأن الإسلام ظاهرى، فقد يقتل إنسان يتظاهر بالإسلام إنساناً مؤمناً. لهذا نادى الحق بالنداء الذى يشمل المظهر والجوهر وهو الإيمان.

 

وحين يشرع الحق فلا بد أن يأتى بالجزاء والعقاب للذى يقتل عمداً. وهو يقول:

 

وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)