وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)

 

فالذى يهاجر فى سبيل الله سيجد السعة إن كان قد وضع نفسه العملية الإيمانية. وفى البداية كان المسلمون يهاجرون إلى الحبشة لأنهم لم يكونوا آمنين فى مكة على دينهم.

 

ولذلك قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسط الله له كونه واستعرض قضية العدالة فى الكون، فلم يقبل النبى إلا أن يذهب المهاجرون إلى الحبشة. ولا بد أن الحق قد أعلمه أن الحبشة فى ذلك الزمان هى أرض بلا فتنة.

 

وقد يقول قائل: ولماذا لم يختر النبى أن يهاجر المهاجرون الأوائل إلى قبيلة عربية فى الجنوب او فى الشمال؟

 

لقد كانت لقريش السيادة على كل الجزيرة العربية بقبائلها، فكل القبائل تحج عند قريش ولم تكن هناك أى بيئة عربية قادرة على أن تقف أمام هوى قريش. ولذلك استعرض سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد جميعاً إلى أن أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، والعلة فى الذهاب إلى الحبشة أن هناك ملكاً لا يظلم عنده أحد . وكان العدل فى ذاته وساما لذلك الملك وسماها المؤمنون دار أمن، وإن لم تكن دار إيمان. وأما الاهجرة إلى المدينة فقد كانت إلى دار إيمان . وعلينا ان نعرف نحن الذين نعيش فى هذا الزمان انه لا هجرة بعد الفتح، إلا إن كانت هجرة يقصد بها صاحبها المعونة على طاعة الله. وهو ما يوضحه قوله صلى الله عليه وسلم) : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر مانهى الله عنه) (1) رواه البخارى وابو داود والنسائى عن ابن عمرو

ويقال : سوف أفعل كذا وأنف فلان راغم، اى أنف فلان يذهب إلى التراب وسأفعل ما أنا مصمم عليه. ومادام هناك إنسان سيفعل شيئاً برغم أنف إنسان آخر، فمعناه أن الثانى كان يريد أن يستذله وأراد ان يرغمه على شئ، لكنه رفض وفعل ما يريد.

 

وعندما يرى الإنسان جباراً يشمخ بانفه ويتكبر، فهو يحاول ان يعانده ويصنع غير ما يريد ويجعل مكانة هذا النف فى التراب، ويقال فى المثل الشعبى: أريد أن أكسر أنف فلان.

 

وعندما يهاجر من كان مستضعفا ويعانى من الذلة فى بلده، سيجد ارضاً يعثر فيها على ما يرغم أنف عدوه. فيقول العدو: برغم أننى ضيقت عليه راح غلى أحسن مما كنت أتوقع. وبرغم الإنسان بهجرته أنف الجبارين.

 

وكلمة "مراغم" هى اسم مفعول، وتعنى مكاناً إذا ما وصلت إليه ترغم أنف خصمك الذى كان يستضعفك، فهل هناك أفضل من هذا؟

 

 

وهناك هجرة باقية لنا وهى الحج، أو الهجرة إلى طلب العلم، أو الهجرة لأن هناك مجالاً للطاعة أكثر، فلنفترض أن هناك مكاناً يضيق الحكام فيه على الذهاب إلى المسجد، فيترك أهل الإيمان هذا المكان إلى مكان فيه مجال ياخذ فيه الإنسان حرية أداء الفروض الدينية، كل هذه هجرات غلى الله. والنية فى هذه الهجرات لا يمكن أن تكون محصورة فقط فى طلب سعة العيش. ولذلك لا يصح أن يكون الشغل الشاغل للناس ما يشغلهم فى هذا الزمان هو سعة العيش.

 

وهاهو ذا الإمام على – كرم الله وجهه – يقول: عجبت للقوم يَسْعَوْنَ فيما ضُمِن – بالبناء للمفعول – لهم ويتركون ما طلب منهم. فكل سعى الناس إنما هو للرزق والعيش وهو أمر مضمون لهم من خالقهم جل وعلا:

 

( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100))

(سورة النساء)

ولن يجد المهاجر إلا السعة من الله، والشاعر يقول:

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها                               ولكن أخلاق الرجال تضيق

 

وقد يقول الإنسان : إننى أطلب سعة الرزق بالهجرة، ونقول: أنت تبحث عن وظيفة لها شكل العمل وباطنها هو الكسل لأنك فى مجال حياتك تجد أعمالاً كثيرةً.

 

ونجد بعضاً ممن يطلبون سعة الرزق يريد الواحد منهم أن يجلس على مكتب ويقبض مرتباً، بينما يبحث المجتمع عن العامل الفنى بصعوبة، كأن الذين يبحثون عن سعة الرزق يريدون هذه السعة مع الكسل، لابد مع بذل الجهد.

 

" ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الأرض مراغماً كثيراً" وساعة تقرأ كلمة "مراغم" تعرف أنها تفتح المجال أمام المستضعفين الذين يستذلهم الجبارون. ومادة "مراغم" هى "الراء والغين والميم" والأصل فيها "الرَغام" أى "التراب"

 

"ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الارض مراغماً كثيرا"أى أنه سبحانه يعطى المهاجر اشياء تجعل من كان يستضعفه ويستذله يشعر بالخزى إلى درجة أن تكون

انفه فى الرَغام.

والمستضعف فى أرض ٍ ما يجد من يضيق عليه حركته ،لكنه عندما يهاجر فى سبيل الله سيجد سعة ورزقاً.

ويتابع الحق الآيه :"ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً" ولا أحد يعرف ميعاد الموت . فإن هاجر إنسان فى سبيل الله فقد لا يصل إلى المراغم ؛لأن الموت قد يأتيه ،وهنا يقع اجره على الله . فإذا كان سبحانه قد وعد المهاجر فى سبيله بالمكان الذى يرغم أنف خصمه وذلك سبب، ومن مات قبل أن يصل إلى رب السبب أكثر عطاءً.وهكذا نجد المهاجر رابح حيا ً او ميتا ً.

"ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً" وكلمة"وقع أجره على الله" أى سقط أجره على الله.كأن الحق سبحانه وتعالى يقول للعبد :أنت عندما تهاجر إلى أرض الله الواسعه ،إن ادركك الموت قبل أن تصل إلى السعه والمراغم ،فأنت تذهب إلى رحابى . والمراغم سبب من أسبابى وأنا المسبب.

وحتى تعرف معنى :"وقع أجره على الله " علينا أن نقرأ قوله الحق

(وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ)

(من ألآيه 82 سورة النمل)

 والوقوع هنا هو سقوط ،ولكنه ليس كالسقوط الذى نعرفه ،بل هو الذهاب إلى الله .ولماذا يستخدم الحق هنا "وقع" بمعنى "سقط"؟

هو سبحانه يلفتنا إلى مدرك هام :حيث يكون الجزاء احرص على العبد من حرص العبد عليه ،فإذا ما أدرك الموت فالجزاء يسعى إليه وهو عند الله ،

ويعرف الجزاء مَن يذهب إليه معرفة كامله .

وهكذا يجب أن نفهم قوله الحق :

وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)

(سورة النساء)

والله غفور رحيم حتى لمن يتوانى قليلاً،وذلك حتى يلحق بالركب الإيمانى ويتدارك ما فاته ؛لأن الله يغفر ما فات إن حاول العبد تداركه.والهجره تقتضى ضرباً فى الأرض ،وتقتضى الجهاد.

وبعد أن جعل الله للإسلام أركاناً،جاء فحمل المسلم ما يمكن أن يؤديه من هذه ألأركان ،فأركان ألأسلام هى:الشهاده ؛والصلاة؛والصوم؛والزكاه؛والحج لمن استطاع اليه سبيلا ً،والمسلم ينطق بالشهاده ويؤدى الصلاة ،والصوم ،ولكنه قد لا يملك مالاً ؛لذلك يعفيه الحق من الزكاه .وقد يكون صاحب مرض دائم فلا يستطيع الصوم ،فيعفيه الله من الصوم .وقدلا تكون عنده القدره على الحج فيعفيه الحق من الحج . أما شهادة"لا إله إلا الله محمداً رسول الله" فقد لا يقولها المسلم فى العمر إلا مرة واحده . ولم يبق غير ركن الصلاة وهو لا يسقط عن الإنسان ابدا ما دامت فيه الصلاحيه لأدائها ،ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(1)  (رأس الأمرَ كلهِ الإسلام وعموده الصلاة) رواه الترمذى وأحمد

 

ولأن الصلاة هى الركن الذى لا يسقط أبداً فقد جمع الله فيها كل الأركان ،فعند إقامة الصلاة يشهد المسلم ألا إله إلا الله محمداً رسول الله،وخلال الصلاة يصوم الإنسان عن الطعام والشراب ،وإضافة إلى ذلك يصوم ويمتنع عن الكلام أيضا،وهكذا نجد الصلاة أوسع فى الإمساك عن ركن الصيام.فالإنسان وهو يقيم الصلاه يحبس نفسه عن اشياء كثيره قد يفعلها وهو صائم ،فالصوم - مثلاً – لا يمنع الإنسان من الحركه إلى أى مكان لكن الصلاة تمنع الأنسان إلا من الوقوف بين يدى الله.

إذن فالصلاة تأخذ إمساكاً من نوع اوسع من إمساك المؤمن فى الصيام. والزكاه هى إخراج جزء من المال ،والمال يأتى به الإنسان من الحركه والعمل. والحركه والعمل تأخذ من  الوقت. وحين يصلى المسلم فهو يزكى بالأصل ،إنه يزكى يبذل الوقت الذى هو وعاء الحركة ، إذن ففى الصلاة زكاة واسعة.

والحج إلى البيت الحرام موجود فى الصلاة ؛لأن المسلم يتحرى الاتجاه إلى البيت الحرام كقبلة فى كل صلاة ،وهكذا.

ولذلك اختلفت الصلاة عن بقية الأركان .فلم تشرع بواسطة الوحى ،وإنما شرعت بالمباشره بين رب محمد صلى الله عليه وسلم .ولأن هذه هى منزلة نجد الحق يحذرنا من أن يشغلنا الضرب فى الأرض عنها ،بل شرع سبحانه صلاة مخصوصه اسمها "صلاة الحرب وصلاة الخوف " حتى لا يقولن أحد إن الحرب تمنعنا من الصلاة ،ففى الحرب يكون  من الأولى بالمسلم أن يلتحم بمنهج ربه .

كذلك فى السفر يشرع الحق قصر الصلوات:

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)