وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)

وهنا نتساءل: هل هَمَ أحد بإضلال رسول الله؟ علينا أن نفهم أن "الهَم" نوعان: هم إنفاذ، وهو تزيين. وقد رفض رسول الله هم الإنفاذ، ودفعه الله عنه لأنه سبحانه

 

 

وتعالى يحوط رسوله بفضله ورحمته ويأتى بالأحداث ليعلمه حكماً جديداً. وفضل الله

على رسوله ورحمته جعل الهم منهم هم تزيين فقط وحفظ الله رسوله منه أيضاً. وعندما تعلم الرسول هذا الحكم الجديد، صار يقضى به من بعد ذلك فى كل قضايا الناس. فإذا ما جاء حدث من الأحداث وجاء له حكم من السماء لم يكن يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فالفضل لله لأنه يزيد رسوله تعليما.

(وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)

(من الآية 113 سورة النساء)

 

وكان قصد الذين دافعوا عن "ابن أبيرق" أن يزينوا لرسول الله، وهذا هو هم التزيين لا هم الإنقاذ.وكان الهدف من التزيين أن يضروا الرسول ويضلوه والعياذ بالله، ليأخذوه إلى غير الحق وغير طريق الهدى، وهذا أمر يضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ان رسول الله برأ المذنب الذى يعلم أنه مذنب لاسْتقرَ فى ذهن المذنب أن قضايا الدين ليست جادة، أما البرئ الذى كان مطلوباً أن يدينه رسول الله ماذا يكون موقفه؟ لا بد أن يقول لنفسه: غن دين محمد لا صدق فيه لأنه يعاقب بريئاً. إذن فَهَمُ التزيين يضر بالرسول عند المبرأ وعند من يراد إلصاق الجريمة به. لكن الله صان رسوله بالفضل وبالرحمة عن هذا أيضا.

(لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)

(من الآية 113 سورة النساء)

 

لقد انزل الحق كتابا ليفصل فى القضية. ونزول الحكم بعد وقوع تلك الحادثة غنما جاء ليبين ضمن ما يبين سر نزول القرىن منجماً؛ لأن القرآن يعالج أحداثاُ واقعية، فيترك الأمر إلى أن يقع الحث ثم يصب على الحدث حكم الله الذى ينزل من السماء وقت حدوث الحدث، وإلا كيف يعالج القرآن الأحداث لو نزل مرة واحدة بينما الأحداث لم تقع؟ لذلك أراد الله أن ينزل الأحداث اولاً ثم يأتى الحكم. وقد سبق أن قال الكفار:

(لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)

(من الآية 32 سورة الفرقان)

لا؛ فقد أراد الله القرآن منجماً ومتفرقاً ومقسطاً لماذا؟

(كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)

(من الآية 32 سورة الفرقان)

فكلما حدثت هزة للفؤاد من اللَدَد والخصومة الشديدة ومن العناد الذى كان عليه الكفار وردَهم للحق – وهو يعرفونه كما يعرفون أبناءهم – ينزل نجم من القرآن، وفى شغب البشر مع الرسول تنزل رحمة السماء تُثَبت الفؤاد؛ فإن تعب الفؤاد من شغب الناس؛ فآيات اتصال الرسول بالسماء وبالوحى تنفى عنه هذه المتاعب. ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى أمر الدعوة كانت تحدث له كل يوم هزات؛ لذلك كان فى كل لحظة يحتاج غلى تثبيت. وعندما ينزل النجم القرآنى بعد العراك مع الخصوم فإن حلاوة النجم القرآنى تُهَوَنُ عليه الأمر، وإذا ما جاء للرسول صلى الله عليه وسلم أمر آخر يعكر صفوه، فهو ينتظر حلاوة الوحى لتنزل عليه، وهذا معنى قوله الحق:

 (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)

(من الآية 32 سورة الفرقان)

(1)   أى أنزلناه منجماً لنثبت به فؤادك. ولو أنزل القرآن جملة واحدة لقلل من مرات اتصال السماء بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو يريد مداومة اتصال السماء به بدليل أن الوحى عندما فتر جلس الرسول يتطلع إلى السماء ويتشوق. لماذا. ففى بداية النزول أرهقه الوحى، لذلك قال الرسول:"فضمنى إليه حتى بلغ منى الجهد" رواه البخارى فى كتاب: بدء الوحى.

 

 

ورأته خديجة – رضى الله عنها- "وإن جبينه ليتفصد عرقاً" فاتصال جبريل بملكيته ونورانيته برسول الله صلى الله عليه سلم فى بشريته لا بد أن يحدث تغييراً كيميائيا فى نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

(2)   عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها أن الحارث بن هشام رضى الله عنه سألى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس وهو أشد علىَ فيفصم عنى وقد وعيت عنه ماقال، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلاً فيكلمنى فأعى ما يقول. قالت عائشة رضى الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا" رواه البخارى فى كتاب: بدء الوحى.

 

 

إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يواجه المتاعب وأراد الله بفترة الوحى أن يحس محمد حلاوة الوحى الذى نزل إليه، وأن يشتاق إليه، فالشوق يعين الرسول على تحمل متاعب الوحى عندما يجئ، ولذلك نجد أن عمليه تفصد العرق لم تستمر كثيرا؛ لأن الحق قال:

(وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4))

(سورة الضحى)

أى أن الحق أوضح لرسوله: إنك ستجد شوقا وحلاوة ولذة فى أن تستقبل هذه الأشياء

 

(كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)

(من الآية 32 سورة الفرقان)

 

وهكذا كان القرآن ينزل منجماً، على فترات، ويسمع الصحابة عدداً من آيات القرآن. ويحفظونها ويكتبها كُتَابُ الوحى، وبعد ذلك تأتى معجزة أخرى من معجزات القرآن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنزل سورة كاملة على رسول الله صلى الله علسه وسلم، وبعد أن يُسرى عنه يقول للكتبة: اكتبوا هذه. ويرتب رسول الله الآيات بمواقعها من السورة. ثم يقرا رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة فى الصلاة ويسمع المصلون الترتيل الذى تكون فيه كل آية فى موقعها، وهذا دليل على أن المسالى مدروسة دراسة دقيقة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يحكى إنما يحكى صدقاً.

 

وإلا فَقُولُوا: كيف  ينزل الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسورة بأكملها ويمليهل للكتبة، ثم يقرؤها فى الصلاة كما نزلت وكما كتبها أصحابه، كيف يحدث ذلك غن لم يكن ما نزل عليه صدقاً كاملاً من عند الله؟ ونحن قد نجد إنساناً يتكلم لمدة ربع ساعة، لكن لو قلنا له: أعد ما تكلمت به فلن يعيد ابداً الكلمات نفسها، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد الآيات كما نزلت. مما يدل على أنه يقرأ كتاب الله المحفوظ الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إنه تنزيل من حكيم حميد. ولذلك يقول الحق:

(وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33))

(سورة الفرقان)

 

أى لا يأتونك بحادثة تحدث إلا جئناك بالحق فيها.

إذن لم يكن للقرآن أن ينزل منجماً إلا ليثبت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من تتابع الهزات التى يتعرض لها، وأراد الله أن ينشر اتصال السماء برسول الله صلى الله عليه وسلم على الثلاثة والعشرين عاماً التى استغرقتها الرسالة.

 

والترتيل هو التنجيم والتفريق الذى ينزل به القرآن فيقرأه الرسول فى الصلاة مثلما نزل عليه قبل ذلك دون تحريف أو تبديل، والحق يقول:

 

(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6))

(سورة الأعلى)

 

وكل حادثة تحدث ينزل لها ما يناسبها من القرآن. كما حدثت حادثة سرقة ابن أبيرق فنزل فيها الحكم والحق يقول: "وعلمك مالم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً"

فإذا ما علمك الله – يا رسول الله – مالم تكن تعلم بنزول الكتاب، فهل أنت يا سيدى يارسول الله مشرع فقط بما نزل من الكتاب؟ لا؛ فالكتاب معجزة وفيه أصول المنهج الإيمانى، ولكن الله مع ذلك فوض رسوله صلى اللهعليه وسلم أن يشرَع؛ وتلك ميزة لم تكن لرسول قبله، بدليل قوله الحق:

(وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)

(من الآية 7 سورة الحشر)

 

فالرسل من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم يتناولون ما أخذوه عن الله، وميز سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم بتفويض التشريع. وأوضح الحق أنه عَلَمَ رسوله الكتاب والحكمة. والحكمة مقصود بها السنة، فسبحانه القائل:

(وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)

(من الآية 34 سورة الأحزاب)

 

وسبحانه صاحب الفضل على كل الخلق وصاحب الفضل على رسوله: "وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك مالم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً" ولنا أن نلحظ أن "فضل الله" تكرر فى هذه الآية مرتين. ففضل الله الأول فى هذه الآية أنه عصمه من أن تضله طائفةوتنأى به عن الحق، ثم كان فضل الله عليه ثانيا أنه أنزل عليه الكتاب بكا أحكامه وأعطاه الحكمة وهى التفويض من الله لرسوله أن يشرَع. إذن فالحق سبحانه وتعالى جعل من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم امتداداً لوحيه. ولذلك إذا قيل من قوم يحاولون التشكيك فى حديث رسول الله: إن الصلاة لم تأت فى القرآن.

 

نقول سائلين الواحد منهم: هل تؤدى الصلاة أم لا.؟

 

فيقول: إننى أصلى..

فنقول له: كم فرضاً تصلى؟.

فيقول: خمسة فروض.

فنقول:هات هذه الفروض الخمسة من القرآن. ولسوف يصيبه البهت،وسيلتبس عليه أمر تحديد الصبح بركعتين والظهر بأربع ركعات، والعصر بمثلها، والمغرب بثلاث، والعشاء بأربع ركعات. وسعترف أخيراً أنه يصلى على ضوء قول الرسول: (صلوا كما رأيتمونى أصلى) (1) رواه البخارى والبيهقى فى السنن الكبرى.

وهذه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

"وعلمك مالم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً" وقد نجد واحداً من أهل السطحية واللجاجة يقول: القرآن يكرر الكلمات فى أكثر من موقع، ولماذا يذكر فضل الله فى صدر هذه الآية، ويذكره مرة أخرى فى ذيل نفس الآية؟.

نقول: أنت لم تلحظ فضل الله فى الجزئية الأولى لأنه أنقذ رسوله من همَ التزيين بالحكم على واحد من أهل الكتاب ظلماً، وفى الجزئية الثانية هو فضل فى الإتمام بأنه علم رسوله الكتاب والحكمة وكان هذا القضل عظيماً حقاً.

 

وساعة يذهب هؤلاء الناس ليحدثوا الرسول فى أمر طعمة بن أبيرق، ألم يجلسوا معاً ليتدارسوا كيف يفلت طعمة بن ابيرق من الجريمة؟.

 

لقد قاموا بالتداول فيما بينهم لأمر طعمة واتفقوا على أن يذهبوا للرسول؛ فكانت الصلة قريبة من النجوى. ولذلك حرص أدب الإسلام على أن يحترم كرامة أى جليس ثالث مع اثنين فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما؛ لأن ذلك يحزنه.

 

وقد يكون الأمر جائزاً لو كان الجلوس أربعة، فواحد يتحدث مع آخر، هناك يستطيع اثنان أن يتناجيا. إذن فالنجوى معناها المسارَة، والمسارَة لا تكون إلا عن أمر لا يحبون أن يشيع، وقد فعل القوم ذلك قبل أن يذهبوا إلى الرسول ليتكلموا عن حادثة طعمة بن أبيرق، ولذلك يفضح الحق أمر هذه النجوى، فينزل القول الحق:

 

لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)