وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)

فى هذه الآية تفصيل لطرق أخذ إبليس لنصيب مفروض من بنى آدم. فإبليس هو القائل كما يحكى القرآن:

(لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)

(من الآية 16 سورة الأعراف)

 

وعرفنا من قبل أنه لن يقعد إلا على الطريق الطيب؛ لأن طريق من اختار السلوك اليئ لا يحتاج إلى شيطان؛ لأنه هو نفسه شيطان؛ لذلك لا يذهب إبليس إلى الخمارة، ولكنه يقف على باب المسجد ليرى الناس وهى تفعل الخير فيوسوس لهم، وفى هذا إجابة لمن يقولون : إن الوساوس تأتينى لحظة الصلاة. والصلاة – كما نعلم – هى أشرف موقف للعبد؛ لأنه يقف بين يدى الرب؛ لذلك يحاول الشيطان أن يلهى الإنسان عنها حتى يحبس عنه الثواب. وهذه الوساوس ظاهرة صحية فى الإيمان، ولكنها تحتاج إلى اليقظة، فساعة ينزغ الشيطان الإنسان نزغة فليتذكر قول الحق:

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

(من الآية 200 سورة الأعراف)

 

وعندما نستعيذ بالله فوراً يعرف الشيطان أنك منتبه له، حتى ولو كنت تقرأ القرآن فى أثناء الصلاة ووسوس لك الشيطان، اقطع القراءة واستعذ بالله، ثم واصل القراءة والصلاة، وحين يعرف الشيطان أنك منتبه له مرة واثنتين وثلاثاً فهو يبتعد عنك فلا يأتى لك من بعد ذلك إلا إذا أحسَ منك غفلة.

 

ويبين لنا الحق طريقة الشيطان فى أخذ النصيب المفروض من عباد الله فقال عن إبليس: "ولأضلنهم". والإضلال معناه أن يسلك الشيطان بالإنسان سبيلاً غير مؤدٍ للغاية الحميدة؛ لأنه حين يسلك الشخص أقصر الطرق الموصلة إلى الغاية المنصوبة، فمعنى ذلك أنه اهتدى، أما إذا ذهب بعيداً عن الغاية، فهذا هو الضلال. والحق سبحانه وتعالى بوضعه منهج الهداية أعطانا أقصر طريق مستقيم إلى الغاية، فإذا ما انحرفنا هنا أو هناك، فالأنحراف فى البداية يتسع حتى ننتهى إلى غير غاية.

 

وضربنا قديماً هذا المثل وقلنا: إن هناك نقطة فى منتصف كل دائرة تسمى مركز الدائرة، فإذا ما انحرف المتجه إليها بنسبة واحد على الألف من الملليمتر فتتسع مسافة ابتعاده عنها كلما سار على نسبة الانحراف نفسها، برغم أنه يفترض فى أن كل خطوة يخطوها تهيئ له القرب إلى الغاية.

 

لقد ضربنا مثلاً توضيحياً بـ"الكشك" الذى يوجد قبل محطات السكك الحيدية، حيث ينظم عامل "الكشك" اتجاهات القطارات على القضبان المختلفة ويتيح لكل قطار أن يتوقف عند رصيف معين حتى لا تتصادم القطارات، ومن أجل إنجاح تلك المهمة نجد عامل التحويلات فى هذا "الكشك" يحرك قضيباً يكون سمكه فى بعض الأحيان عدداً من الملليمترات، ليلتصق هذا القضيب بقضيب آخر وبذلك يسمح لعجلات القطار أن تنتقل من قضيب إلى آخر.

 

الضلال-إذن- أن يسلك الإنسان سبيلاً غير موصل للغاية، وكلما خطا الإنسان خطوة فى هذا السبيل ابتعد عنها، هذا الابتعاد عن الغاية هو الضلال البعيد، والإضلال من الشيطان يكون بتزيينه الشر والقبح للإنسان ليبعده عن مسالك الخير والفضيلة.

 

ومن بعد ذلك يأتى على لسان الشيطان ماقاله الحق فى هذه الآية: "ولأمنينهم" وألمانى هى أن ينصب الإنسان فى خياله شيئاً يستمتع به من غير أن يخطو له خطوة عمل تقربه من ذلك، ومثال ذلك الإنسان الذى نراه جالساً ويمنى نفسه قائلاً: سيكون عندى كذا وكذا ولا يتقدم خطوة واحدة لتحقيق ذلك.

 

ولذلك يقول الشاعر تسلية لنفسه:

 

مُنَى . . إن تكن حقاً . . تكن أحسن المنى

                                                          وإلا فـقــد عـشــنــــا بهــا زمنــا رغـــداً

 

أى أنه استمتع بهذه الأمانى فى أحلام اليقظة سواء أكانت هذه الأحلام امتلاك قصر أم سيارة أم غير ذلك. وكل أمنية لا تحفز الإنسان إلى عمل يقربه منها هى أمنية كاذبة،  ولذلك يقال : "إن الأمانى بضاعة الحمقى" والشيطان يمنى الإنسان بأنه لا يوجد بعث ولا جزاء.

 

ومن بعد ذلك يقول الشيطان: "ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام" والبتك هو: القطع. والأنعام: هى الإبل والبقر والغنم، أى قطع آذان الأنعام. والقرآن قال فى الأنعام:

(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

(الآية 143 وجزء من الآية 144 سورة الأنعام)

 

لو كان الزوج يطلق على "الاثنين" لكان العدد أربعة فقط، ويعلمنا التعبير القرآنى ويوضح لنا أن نفلاق جيداً لنفهم أن معنى كلمة "زوج" ليس أبداً "اثنين" ، ولكن معناها: واحد معه غيره من نوعه أو جنسه. فيقال عن فردة الحذاء "زوج" لأن معها فردة أخرى، ومثال آخر أيضا: كلمة "توأم" التى نظن أنها تعنى "اثنين" ، لكن المعنى الحقيقى أن التوأم هو واحد له توأم آخر، فإذا ما أردنا التعبير عن الاثنين قلنا:"توأمان".

 

وحين أورد من خطط الشيطان"ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام" فلهذا قصة. ونحن نعرف أن المنتفعين بالضلالات يصنعون لهم سلطة زمنية حتى يربطوا الناس بأشخاصهم هم. وكان المشرفون على الأصنام يقومون على خدمتها، ولم يلحظ أحد أنه من الغباء تَقَبُلُ فكرة أن يخدم البشر الآلهة، فالإله هو القيوم على خلقه يرعاهم ويوقم  بأسبابهم ، وكان هؤلاء الناس هم المنتفعين بخيبة الغفلة عند البشر، وكانوا ييشون سدنة ليأخذوا الخير، وبطبيعة الحال فالشيطان من البشر أو الجن يجدها وسيلة، فيجلس فى جوف الصنم ويتكلم فيأخذ السدنة والخدم هذه المسألة لترويج الدعايات للصنم، فيأتى الأغبياء له بالأنعام من الإبل والبقر والغنم فيذبحونها ويأكلونها. ولذلك كان السدنة دائماً وفى أغلب الحالات أهل سمنة لأنهم أهل بطنة، والنبى صلى الله عليه وسلم قال:

 

(إن الله يبغض الحَبْرَ السمين) (1) أخرجه الواحدى فى أسباب النزول، وعند أبى نعيم فى الطب النبوى وعزاه أبو الليث السمرقندى فى بستانه لأبى أمامة الباهلى مرفوعا .

 

فمثل هذا الحَبْرَ يستسهل أكل خير الناس والانتفاع به، فهو ينتفع بضلالات الناس، ومن ينتفع بالضلالة يرى أن حظه فى أن تستمر الضلالة، مثله فى ذلك مثل المنتفع من تجارة المخدرات إنَه يتمنى أن يتعاطى الناس جميعا المخدرات.. وعندما تقوم حملات لمقاومة المخدرات يغضب ويحزن.

 

ومثل ذلك أيضاً تاجر السوق السوداء الذى يصيبه الغمَ عندما تأتى البضائع على قدر حاجات الناس وتكفيهم. فكل فساد مستتر وراءه أناس ينتفعون به. وعندما يرى المنتفع بالفساد هبَة إصلاح يغضب ويحاول أن يجد وسيلة لاستمرار الفساد، ولهذا كان السدنة ينفحون فى الأصنام لتصدر أصواتاً ليطلبوا من وراء ذلك مطالب من الأغبياء المصدقين لهم، مثلهم مثل الدجالين الذين نسمع عنهم حيث يقول الواحد منهم لأهل المريض: إن على المريض عفريتاً، والعفريت يطلب ناقة أو ذبيحة أو دما

 

هكذا كان يفعل السدنة، ويحاولون بشتى الطرق من الحيل والخدع حتى يأخذوا من الغافلين السذج الإبل والبقر والغنم. وعندما يقطع صاحب الإبل أو البقر أو الغنم أذن أى واحدة منها، فهذا يعنى أنها منذورة للأصنام، والأصنام بطبيعتها لا تأكل ولكن السدنة يأكلون.

وفى آية أخرى يقول فيها الحق:

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا)

(من الآية 59 سورة يونس)

 

 

 

ويورد الحق أيضاً فى هذا الأمر:

(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144))

(سورة الأنعام)

 

فهل المحرم هو "الذكران" أو الأنثيان أو الذى اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟.

 

لاشئ من هذه كلها محرَم؛ فقد خلقها الله كلها رزقاً حلالاً. والنعمة نفسها تعرف وظيفتها، ونلحظ فى الريف المصرى عندما تُختنق جاموسة أو بقرة أو خروف بالحبل. أو يصاب بأذى أو مرض فإنه ينام ويمد عنقه فيقال: "لقد طلب الحلال"، كأن البهيمة تقول لصاحبها: الحقنى بالذبح لتستفيد من لحمى ونتعجب لأن الحمار مثلاً لا يفعل ذلك؛ لأن لحمه غير محلل. لكن البهيمة تعرف فائدتها بالنسبة للإنسان فتمد رقبتها طالبة الذبح، كما نعرف أنها فى أثناء حياتها تخدم الإنسان إنا فى أن تحمل الأثقال، وإمَا أن يأخذ منها الألبان أو الوبر أو الصوف أو الشعر، ولحظة ما يدهمها ويغشاها ويصيبها خطر فهى تمد رقبتها كأنها تطلب الذبح ليستفيد الإنسان من لحمها، فهى مسخرة للإنسان وتعرف ذلك إلهاما وتسخيراً.

 

ومادام الله قد جعل لنا كل هذا . . فلم نقبل تحريم غير المحرَم وتحليل غير الحلال؟ لكن السدنة كانوا يفعلون الأعاجيب للسيطرة على الناس، فإذا ما ولدت الناقة أربعة أبطن وجاءت بالمولود الخامس ذكرا يقول السدنة: يكفى أنها جاءت بأربعة بطون وأتت بالخامس فحلاً ذكراً ويشقون أذن الناقة ويتركونها؛ وعندما يراها أحد ويجد أذنها مشقوقة فالعرف يقضى بألا تستخدم فى أى شئ، لا فى الرضاعة ، ولا فى الحمل ولا يجلب لبنها ولا تمنع من المياه أو الكلأ وتسمى "البحيرة" ويأخذها السندة فى أى وقت؛ لأنهم لا يريدون تخزين اللحوم، يريدونها حية ليذبحوها فى الوقت الذى يتراءى لهم، ولذلك قال الحق:

(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ)

(من الآية 103 سورة المائدة) 

 

والبحيرة- إذن- هى الناقة التى تبحر آذانها- أى تشق- فذلك يعنى أنها جاءت بأربعة أبطن تباعاً ثم جاءت بالذكر فى البطن الخامسة ويهبها صاحبها للأصنام. والبحيرة سائبة مع وجود سائبة أخرى، وهى إن لم تأت بأربعة أبطن ولا بالذكر فى البطن الخامسة ولكن صاحبها يقدمها نذراً أو هدية لأحد الأصنام. وتسمى "سائبة" لأن أحداً لا يقوم على شأنها، ولكنها ترعى فى أى أرض وتشرب من أى ماء ولا أحد يأخذ من لبنها أو يركبها، ويأخذها السدنة وقت احتياجهم للحم الطازج الغضَى. وإذا ولدت الشاة أنثى جعلوها لهم، وإن ولدت ذكرا جعلوه لألهتم، وإن ولدت ذكراً وأنثى لم يذبحوا الذكر لآلهتهم وقالوا عن الشاة: وصلت أخاها فهذه هى الوصيلة؛ لأن الناس كانت تحتفظ بلإناث من البهائم فهى وعاء النسل؛ لذلك فهبة الفحل للسدنة كان أمراً مقدوراً عليه. ويقول الشاعر:

 

وإنما أمهات القوم أوعية                           مستحدثات وللأحساب آباء

 

ونرى فى المزارع أن إناث المواشى تحتاج إلى فحل واحد؛ وقد يكون فى البلدة كلها فحل واحد أو اثنان لإناث الماشية من النوع نفسه، ويفرح الأطفال فى الريف حين تلد الماشية ذكراً؛ لأنه سيتغذى قليلاً ثم يتم ذبحه ويأكلون منه. ويغضب الأطفال حين تلد الماشية أنثى لأنه سيتم تربيتها، ولن يأكلوا منها.

 

أى أنهم قديماً عندما كانت الماشية تلد فى بطن واحد أنثى وذكراً لا يذبحون الذكر ويقولون: الأنثى وصلت أخاها ويضمن الذكر حياته ويستخدم كفحل ليلقح بقية الإناث، ويقال عنها: الوصيلة.

 

هكذا نجد البحيرة هى الناقة التى أنجبت خمسة أبطن آخرها ذكر، والشائبة وهى النذر من أول الأمر ، والوصيلة وهى النى ولدت أنثى ومعها ذكر، فيقال وصلت الأنثى أخاها، أى قدمت له الحماية. والحام هو الذكر الذى نتجت من صلبه عشرة أبطن فلا يركب ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى وقالوا: حمى ظهره.

 

وهناك من يتحذلق فى عصرنا قائلاً: أنا نباتى، لا آكل اللحم، على الرغم من أن الواحد منهم قد يذبح إنساناً ويدعى الحزن عند ذبح دجاجة، ونقول لهؤلاء: انتبهوا؛ إن الله قد سخر لنا هذه الأنعام وهى نفسها تحب أن ينتفع بها.

 

ومن وسائل الشيطان ما يقوله الحق: "ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام" وعرفنا أنهم كانوا يفعلون ذلك من أجل إرضاء سدنة الأصنام، هؤلاء السدنة الذين أحبوا أن تظل هذه الأصنام وهذه الأنعام المرصودة من أجلها. ولذلك أقول دائماً: آه من أن يرتبط رجل دين بمسائل دنيا؛ فهذا مصدر للخوف من أن يزيف الدين لمصلحة الأهواء.

 

ومن وسائل الشيطان ما يقوله الحق على لسان الشيطان: "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله". وكشف لنا الحق كيف صار للشيطان أمر على هؤلاء الناس، مع أن الأمر يجب أن يكون لله وحده، ونتساءل: كيف يغيرون من خلق الله؟ وكل شئ هو من خلق الله.

 

والخلق-كما نعلم- إيجاد من عَدم، وسبحانه خلق كل شئ وجعل لكل كائن وظيفة ما، فهو خلق عن حكمة لغاية، وهذه الغاية موجودة فى علم الخالق ازلاً- ولله المثل الأعلى-نجد المستحدَث الصناعى فى الأسواق كغسالة الملابس مثلا ونعرف أن الذى صممها إنما صممها من أجل راحة الناس، وقد فكر فى هذا الهدف قبل أن يصنع ويصمم الآلة التى تؤدى هذا العمل لتريح الناس من تعب غسل الملابس بايديهم، وكذلك من صمم "الميكروفون" أراد فى البداية هدفاً هو أن يصل الصوت لمن هو بعيد، ثم بدأ البحوث والتطبيقات من أجل أن يصل إلى الغاية والقصد.

 

والحق سبحانه وتعالى خلق كل خلق من خلقه لغاية، فإن استعملنا مخلوقه لغايته، فلن نقع فى محظور تغيير خلق الله، ولكن لو استعملنا المخلوق لغير الغاية فهذا هو التغيير لخلق الله، وساعة نريد فهم لفظ من الألفاظ فلنبحث فى القرآن عن نظائره، وقد نجد فى القرآن نفسه ما يفسر القرآن نفسه، فالحق يقول هنا:

"فليغيرن خلق الله"، وفى موقع آخر يقول:

(أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)

(من الآية 54 سورة الأعراف)

 

والخلق المعروف نراه فى الكائنات، وهناك مالانراه أيضاً، والأمر مقصود به قوله الحق:

(كُنْ فَيَكُونُ)

(من الآية82 سورة يس)

 

وآية أخرى تقربنا أكثر من هذا الموضوع:

(فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)

(من الآية 30 سورة الروم)

وهذا يعنى أن الخلق كله على أصل الفطرة. فغذا ما حاول أحد أن يغير الفطرة فهذا تغيير لخلق الله. ما الفطرة إذن؟. إنها الصفاء الأولىَ فى النفس والطبيعة. ومثال ذلك حين يوجد الإنسان فى بيئة لا تكذب فلن يعرف فى حياته الكذب. وعندما يوجد الإنسان فى بيئة لا تسرق فلن يعرف ما السرقة؛ فالإنسان إنما يتعرف على الموبقات من النقض المجتمعى، بدليل أن البلدان التى طبقت الشريعة الإسلامية وتم قطع عدد قليل من الأيدى عقوبة وحداً فى السرقة انتهت فيها السرقة ونشأ جيل لم ير سارقاً. ومن يترك شيئا فى مكان ما يظل فى مكانه إلى أن يعود صاحبه ليجده، هذه هى الفطرة السليمة، ودليلنا على أن الفطرة سليمة بطبيعتها هو أننا نجد أن الذى يحاول صنع أمر ما يخالف الفطرة إنما يتلصص ويتتر؛ لأنه يعرف أن هذا الأمر غير سليم.

 

لقد ضربت المثل على ذلك بالرجلحين ينظر إلى زوجته،إنَه ينظر بكل ملكاته، أما إن نظر-والعياذ بالله- إلى محارم غيره فهو يتلصص ليختلس النظر بعيداً عن الآخرين. فالإنسان حين يرتكب إثماً يتكلف شيئاً متنافراً ومغايراً لطبيعته. والتكلف هو الإتيان بشئ خارج عن الفطرة الإنسانية. وتغيير كل ما يتعلق بالفطرة هو تغيير لخلق الله.

 

وصور الفساد لا تأتى إلا من هذه الناحية.

 

كيف؟.

 

إننا نرى الحق قد خلق الزوجين الذكر والأنثى. ونجد من الرجال من يستأنث-أى يحاول أن يكون أنثى-وقد يتصرف كما تسلك المرأة وتتصرف ويتزين بزينتها ويتخنث، هذا إنسان يريد أن يغير خلق الله. وكذلك قد نجد امرأة تريد أن تسترجل، فهى تريد أن تغير خلق الله.

 

ولذلك فإننا نرى أستاذاً عالماً هو الدكتور حسن جاد-أمده الله بالعافية- وهو شاعر وزميل لى ونشأنا معاً، رأى هذه الظاهرة، ظاهرة محاولة البعض تغيير خلق الله فقال قصيدة مشهورة جاء فيها:

 

من حيرتى من الذين اللاتى                        حرت بين الفتى وبين الفتاة

 

الشاعر يعلن حيرته؛ لأنه لا يتعرف على الفارق بين الفتى والفتاة، ففى بعض الأحيان صارا من "الذين واللاتى معاً" لأن الفتى يتشبه بالفتاة، والفتاة تتشبَه بالفتى. على الرغم من احتفاظ كل منهما بخصائص نوعه، وبما يميزه عن النوع الآخر. وبعض النساء يقمن بإجراءات لتغيير الخلقة، كنزع شعر الحواجب من منابته وإعادة رسم مكانه بوضع خط بالقلم الملون، ويفضح ذلك نبتُ الشعر من جديد، فتتحول إلى شكل قبيح وتنسى أن الجمال إبداع تقاسيم، فقد يكون سرَ جمال واحدة أن يكون شعر الحاجبين كثيفا، وقد يكون سرَ الجمال للمرأة اتساع الفم، أو طول الأنف.

 

لقد سمعنا أن أنف كليوباترا لو كان قصيراً بعض الشئ لتغير وجه التاريخ. والحق سبحانه وتعالى كما وزع الأمزجة على العباد وزع أيضاً أسلوب الخلق بما يغطى هذه الأمزجة. ألا ترى فى الحياة اليومية شاباً يتقدم لخطبة فتاة فلا تعجبه، أو لا يعجبها، ويأتى آخر فيعجب بالفتاة نفسها وتهجب الفتاة به. هو سبحانه الذى أنشأ السيال العاطفى ليتواءم الخلق بهذا السيال. وقد تحاول فتاة أن تغير من خلق الله فتسبب بذلك فساداً للسيال العاطفى.

 

وقد تريد المرأة أن تجعل حمرة خديها فى لون الورد فتضع عليهما بعضاً من المساحيق، ألا تعلم هذه المرأة أن زوجها وأقاربها يعرفون أنها قد صنعت ذلك بمواد خارجية، وماذا يكون موقفها عندما يراها زوجها فى الصباح وقد أفسدت الألوان بشرتها، وماذا يكون موقفها عندما تتقدم بها السن وتكون المساحيق قد خنقت مسام جلدها ومنعت الجلد من التنفس، ويتحول شكلها باستمرار سوء فعلها إلى كائن أقرب إلى وجه القرد والعياذ بالله؟ لقد غيرت بسوء الفعل خلق الله.

 

وكذلك الظافر التى يتم خنقها بطبقات من "البلاستيك" الملون. هل تظن واحدة أن هناك رجلاً قد يتصور أن هذا لون أظافرها الطبيعى؟. إن الأظافر ذات لون أراده الله بحكمه، لها نظام، فلماذا تحرم المرأة أظافرها من الحياة الطبيعية ومن نعمة تنفس الهواء، فالأظافر تتنفس أيضا. وقد يفتى واحد بأنه يصح للمرأة أن تتوضأ بعد أن تضع هذا الطلاء، وأقول : اتق الله؛ فهذه ليست أصباغاً؛ لأن الأصباغ تتخلل الجلد أو الظفر ولا يذهب لون الصبغة إلا بذهاب الجلد أو الظفر- مثل الحنة – وفى هذه الحالة يصل الماء فى الطهارة غلى الجلد، أما طبقة البلاستيك التى على الظفر فلا تُزال إلا بمادة كيماوية ويمكن إزالتها وهى لون من الطلاء وليست صبغة ولا يصل الماء معها فى الغسل أو الوضوء إلى البشرة.

 

ومن تفعل ذلك إنما تخددع نفسها ومن يُعجب بها. ولنا أن نعرف أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعدل من مزاج الكون فيعطى للإنسان سكناً ومتعة ولكن بتوازن عاطفى وعقلى، فلو أراد الله لخدَ المرأة التوهج لتثير غرائز الرجل لخلق الله الخدين على هذا الأسلوب، لكنه أراد للخدود أن تكون بألوانها الطبيعية حتى تهيج الغرائز على قدر القوة التى فى الرجل، وعندما تكبر المرأة نجد جمالها قد ذبل قليلاً على قدر نسبة ذبول قدرة الرجل، فسبحانه يعطى على قدر الطاقة حتى لاتتحول المسألة إلى إهاجة للغرائز فقط.

إن هناك فرقا بين تصريف الغرائز وإهاجة الغرائز وإلهابها، وما يحدث من وسائل التجميل هو تغيير لخلق الله. وكذلك المرأة التى تحدث وشماً(1) الوشم :مايكون من غرز الإبرة فى البدن، وذَر ونثر مادة عليه تستخرج من نبات النيل تسمى: "النَيلج" حتى يزرق أثره أو يخضرَ.

أو الرجل الذى يفعل ذلك إنما يغيران من خلق الله، ولو كان الحق يرى أن مثل هذه الأعمال تزيد من الجمال لفعلها "فليغيرن خلق الله"

 

ويقول الحق من بعد ذلك: "ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبيناً" والولى للشيطان هو الذى يليه ويقرب منه. ومن فعل ذلك فقد ترك الأفضل وذهب إلى الأضعف الذى يورده مهاوى وموارد الهلاك، ويخسر الخسران الواضح والمحيط من كل الجهات، ولا انفلات من مثل هذا الخسران.

 

ويقول الحق من بعد ذلك:

يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)