سورة النور

(سورة النور , هى السورة رقم 24 فى ترتيب المصحف الشريف , و تقع فى الجزء الثامن عشر من المصحف , و هى سورة مدنية بالإجماع , قاله القرطبى فى تفسيره ( 6 / 4693 ) , نزلت بعد سورة النصر و قبل سورة الحج , و هى السورة رقم 17 فى ترتيب النزول بالمدينة , راجع , الإتقان فى علوم القرآن , للسيوطى ( 1 / 27 ) . و عدد آياتها 64 آية ) .

{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1) }

اسمها سورة ( النور )

( قال القرطبى فى تفسيره ( 6 / 4693 ) : " مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف و الستر , و كتب عمر رضى الله عنه إلى أهل الكوفة : علموا نساءكم سورة النور " ) .

و إذا استقرأنا موضوع المُسمى أو المعنون له بسورة ( النور ) تجد النور شائعا" فى كل أعطافها – لا أقول آياتها و لا أقول كلماتها – و لكن النور شائع فى كل حروفها ، لماذا ؟

قالوا : لأن النور من الألفاظ التى يدل عليها نطقها و يعرفها أكثر من أى تعريف آخر ، فالناس تعرف النور بمجرد نـُطْق هذه الكلمة ، و النور لا يـُـعرَّف إلا بحقيقة ما يؤديه ، و هو ما تتضح به المرئيات ، و تتجلى به الكائنات ، فلولا هذا النور ما كنا نرى شيئا" .

إذن : يـــُعرف النور بخاصيته ، و هو الذى يجعل لك قدرة على أن ترى المرئيات ، بدليل أنها إن كانت فى ظلمة لا تراها . إذن ، فالنور لا يُرَى ، و لكن نرى به الأشياء ، فالله تعالى نور السموات و الأرض ينورهما لنا ، لكن لا نراه سبحانه .

لكن ، هل كل الأشياء مرائى ؟ أليس منها المسموع و المشموم و المتذوق ؟ قالوا : نعم ، لكن الدليل الأول على كل هذه و فعل الحوادث هى المرئيات ؟ لأن كل أدلة الكون مرئية نراها أولاً ، ثم حين تسمع ، و حين تشم ، و حين تلمس ، وحين تميز الثقيل من الخفيف ، أو القريب من البعيد ، فهذا كله فرع ما يوجد فيك ، بعد ما تؤمن أن الله الذى أوجدك هو الذى أوجد لك كل شئ ، فإذا ما نظرت إلى النور وجدت النور أمرا حسياً ترى به الأشياء .

و كانوا فى الماضى يعتقدون أن الإنسان يبصر الأشياء بشعاع يخرج من العين ، فيسقط على الشئ فتراه ، إلى أن جاء العالم الإسلامى الحسن بن الهيثم ، و أبطل هذه النظرية و قال : إن الشعاع يأتى من المرئى إلى العين فتراه ، و ليس العكس ، و استدل على ذلك بأن الشئ إنْ كان في الظلام لا نراه ، و نحن فى النور ، فلو أن الشعاع يخرج منك لرأيته .

و فى ضوء هذه النظرية فهمنا قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ... (2)} [الإسراء] فهى مصرة : لأن الشعاع يأتى من هناك ، فكأنها هى التى ترى .

لكن ، ما نـَفْع هذا النور الحسي للإنسان الخليفة فى الأرض ؟ أنت حين ترى الأشياء تتعامل معها تعاملاً يعطيك خيرها و يكف عنك شرها ، و لو لم تَــَــرَ الأشياء ما أمكنك التعامل معها ، و إلا فكيف تسير فى مكان مظلم فيه ما يؤذيك مثل الثعابين أو زجاج متكسر ؟

إذن : لا تستطيع أن تهتدى إلى مواضع قدمك ، و تأخذ خير الأشياء ، و تتجنب شرها ألا بالنور الحسى ، كذلك أن سرت فى ظلمة و على غير هدى ، فلا بد أن تصطدم بأقوى منك فيحطمك ، أو باضعف منك فتحطمه .

لذلك سمى الحق - تبارك و تعالى – المنهج الذى يهديك فى دروب الحياة نورا" .

و الناس حين لا يوجد النور الربانى الإلهى يصنعون لأنفسهم انوارا" على قدر إمكاناتهم و بيئاتهم بداية من المسرجة و لمبة الجاز ، و كان الناس يتفاوتون حتى فى هذه – حتى عصر الكهرباء و الفلوروسنت و النيون و خلافه من وسائل الإضاءة التى يتفاوت فيها الناس تفاوتا" كبيرا" ، هذا فى الليل ، فإذا ما أشرقت الشمس أطفأ الجميع أنوارهم و مصابيحهم ، لماذا ؟ لأن مصباح الله قد ظهر و أستوى فيه الجميع لا يتميز فيه أحد عن أحد .

و كذلك النور المعنوى نور المنهج الذى يهديك إن كان لله فيه توجيه ، فأطفى مصابيح توجيه البشر لا يصح أن تستضئ بنور و نور ربك موجود ، بل عليك أن تبادر و تأخذ ما تقدر عليه من نور ربك , فكما أخذت نور الله الحسى فألغيت به كل الأنوار ، فخذ نور الله فى القيم ، خذ نور الله فى الأخلاق و فى الماملات و فى السلوك يغنيك هذا عن أى نور من أنوار البشر و مناهجهم .

ألا ترى النمرود كيف بهت حينما قطع عليه إبراهيم – عليه السلام – جدله و ألجأه إلى الحجة التى لا يستطيع الفكاك منها , حين قال له : { فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ...(258) } [البقرة]

و الحق – تبارك و تعالى – يفيض من أنواره و صفات كماله على خلقه الذين جعلهم خلفاء له سبحانه فى الأرض ، فقال : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ...(30) } [البقرة] و الخليفة فى الأرض ليس جيلا" واحدا" خلقه الله و استخلفه فى الأرض الى قيام الساعة ، إنما الخليفة أجيال و أنسال تتوالى ، يموت واحد و يولد آخر فى حلقات موصولة الأنسال لا الذوات .

و الخليفة لا ينجح فى خلافته إلا إذا سار فيها على وفق مراد من استخلفه ، و آفة الناس فى خلافتهم لله فى الأرض أن يعتبروا أنفسهم أصلاء لا خلفاء ، فالخليفة فى ذهنه دائما" هذه الخلافة ؛ لذلك يلتفت إلى الأصل ، و ينظر ماذا يريد منه من استخلفه .

و الحق – تبارك و تعالى – جعل له خليفة فى الأرض لتظهر عليه سمات قدرته تعالى و صفات كماله ، فالله تعالى قادر ، الله عالم ، الله حكيم ، الله غنى ، الله رحيم ، الله غفور ... الخ و هو سبحانه يعطى من صفاته و يفيض منها على خلقه و خليفته فى أرضه بعضا" من هذه الصفات ، فيعطيك من قدرته قدرة ، و من رحمته رحمة ، و من غنائه غنى ، لكن تظل الصفة فى يده تعالى إن شاء سلبها ، ألا ترى القوى قد يصير ضعيفا" ، و الغنى قد يصير فقيرا" ؟

ذلك لنعلم أن هذه الصفات ليست ذاتية فينا ، و أن هذه الهبات ليست أصلا" عندنا ، إنما هى فيض من فيض الله و هبة من هباته سبحانه , لذلك علينا أن نستعملها وفق مراده تعالى ، فإن أعطاك ربك القدرة فإنما أفاض بها عليك لتفيض أنت بها على غيرك ، أعطاك العلم لتنثره على الناس ، أعطاك الغنى لترعى حق الفقير .

إذن : ما دام أن الله تعالى أفاض عليك من صفات الكمال وأحتفظ

هو سبحانه بملكية هذه الصفات , فإن شاء سلبها منك ، فعليك أن تستغل الفرصة و تنتهز وجود هذه الخصلة عندك ، فتثمرها فيما أراده الله منك قبل أن تسلب ، حتى إذا سلبت منك ناتك من غيرك .

فتصدق و أنت غنى لتنال صدقة الآخرين إن أصابك الفقر ، و أكرم اليتيم لتجد من يكرم يتيمك من بعدك , فإن قابلت أحداث الحياة بهذه النظرة اطمأن قلبك ، و أمنت من حوادث الزمن ، و استقبلت الأحداث بالرضا ، و كيف تهتم و أنت فى مجتمع يرعاك كما رعيته ، و يحملك كما حملته ، و يتعاون معك كما تعاونت معه ؟

و صدق الله تعالى حين قال : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً(9) } [النساء]

إذن : الحق – تبارك و تعالى – يريد من خليفته فى أرضه أن يكون جماعا لصفات الكمال التى تسعد الخلق بآثار الخالق فيهم ، و هذه هى الخلافة الحقة .

و سورة النور جاءت لتحمل نور المعنويات , نور القيم , نور التعامل , نور الأخلاق , نور الإدارة و التصرف ، و ما دام أن الله تعالى وضع لنا هذا النور فلا يصح للبشر أن يضعوا لأنفسهم قوانين أخرى ؛ لأنه كما قال سبحانه : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ(40) } [النور] فلو لم تكن هذه الشمس ما استطاع أحد أن يصنع لنفسه نورا" أبدا .

فالحق – تبارك و تعالى – يريد لخليفته فى أرضه أن يكون طاهرا" شريفا" كريما" عزيزا" ؛ لذلك وضع له من القوانين ما يكفل له هذه الغاية , و أول هذه القوانين و أهمها قانون التقاء الرجل و المرأة التقاء سليما" فى وضح النهار ؛ لينتج عن هذا اللقاء نسل طاهر جدير بخلافة الله فى أرضه ؛ لذلك أول ما تكلم الحق سبحانه فى هذه السورة تكلم عن مسألة الزنى .

و العجيب أن تأتى هذه السورة بعد سورة ( المؤمنون ) التى قال الله فى أولها { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) } [المؤمنون] ثم ذكر من هؤلاء المؤمنين المفلحين { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5) } [المؤمنون] و هنا قال : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي .. (2) } [النور] فجاء بالمقابل للذين هم لفروجهم حافظون .

نفهم من هذا أنه لا يلتقى رجل و امرأة إلا على نور من الله و هدى من شريعته الحكيمة ؛ لأنه عز و جل هو خالق الإنسان , و هو أعلم بما يصلحه , و هو خالق ذراته , و يعلم كيف تنسجم هذه الذرات بعضها البعض , و هو سبحانه خالق ملكات النفس , و يعلم كيف تتعايش هذه الملكات و لا تتنافر .

إذن : طبيعى إن أردت أن تنشئ خليفة فى الكون على غير مراد الله و على غير مواصفات الحق , لابد أن يضطرب الكون و تتصارع فيه ملكات النفس , و ماذا تنتظر من هذا الخليفة إن جاء فى الظلام ؟ ساعتها تظهر أمراض النسل من وأد الأولاد و قتلهم حتى فى بطون الأمهات , و قد يتشكك الرجل فى ولده , فيبغضه و يهمله و يتركه للتشرد .

إذن : لن تستقيم هذه المسألة إلا حين يأتى الخليفة وفق مواصفات ربه , و أن يلتقى الزوجان على ما شرع الله فى وضح النهار , لا أن يندس كل منهما على الآخر فى ظلمة الإثم , فيحدث المحظور الذى تختلط به الأنساب , و يتفكك رباط المجتمع .

إن من أقسى تجارب الحياة على المرء أن يشك فى نسبة ولده إليه , وأن تعتصره هذه الفكرة , فيهمل ولده و فلذة كبده , و ينفق هنا و هناك و يحرمه على خلاف النسل الطاهر , حيث يتلهف الأب لولده , و يجوع ليشبع , و يتعرى ليلبس .

فالحق سبحانه يريد النسل المحضون بالأبوين فى أبوة صحيحة شرعية و أمومة صحيحة شرعية اجتمعا على نور الله .

و لك أن تُجرى مقارنة بين امرأة حملت سفاحا" و أخرى حملت حملا" شرعيا" طاهرا" , ستجد الأولى تحمله على مضض و كره , و تود أن تتخلص منه و هو جنين فى بطنها , فإن تحاملت على نفسها إلى حين ولادته تخلصت منه فى ليلتها و لو بإلقائه على قارعة الطريق .

أما صاحبة الحمل الشرعى فتتلهف على الولد , و إن تاخر بعض الوقت صارت قلقة تدور بين الأطباء , فإن أكرمها الله بالحمل طارت به فرحا" و فخرا" , و حافظت عليه فى مشيها و حركاتها و نومها و قيامها إلى حين الوضع , فتتحمل آلامه راضية ثم تحتضنه و ترضعه و تعيش حياتها فى خدمته و رعايته .

فالله يريد أن يأتى خليفته فى أرضه من إخصاب طاهر على أعين الناس جميعا" و فى نور الله المعنوى , يريد للزوج أن يأتى من الباب فى ضوء هذا النور , لا أن يتلصص فى الظلام من باب الخدم .

لذلك يتوعد الحق – سبحانه و تعالى – من يخالف هذا المنهج و يريد أن يفسد شرف الخلافة التى يريدها الله طاهرة , و يدنس النسل , و يوغر الصدور بالأحقاد و العداوات , و يزرع الشك فى نفوس الخلق , و جرائم العرض لا يقتصر ضررها على العداوات الشخصية إنما تتعدى هذه إلى الإضرار بالمجتمع كله .

و انظر إلى الإيدز الذى يهدد المجتمعات الآن , و هو ناتج عن الالتقاء غير الشرعى , و خطر الإيدز لا يقتصر على طرفيه إنما يتعداهما إلى الغير , إذن : من صالح المجتمع كله أن نقيم حد الزنا حتى لا يستشرى هذا الداء .

و نعجب من هؤلاء الذين يهاجمون شرع الله فى مسألة الحدود حين تقضى برجم الزانى المحصن حتى الموت , ألا يعلم هؤلاء أننا نضحى بواحد لنحفظ سلامة الملايين فى صحة و عافية ؟ ألا يرون ما يحدث مثلا" فى وباء الطاعون الذى أعجز العلماء حتى الآن , و لم يجدوا له علاجا" , و كيف أن الشرع أمرنا إن نزل الطاعون بأرض ألا نذهب إليها , و أمر من فيها ألا يخرجوا منها , لماذا ؟ لنحصر هذا الوباء حتى لا يستشرى بين الناس .

كذلك الحال فى مسألة الزنا ؛ لأن الزانى لا يقتصر شره عليه وحده , إنما يتعدى شره إلى المجتمع كله , مع مراعاة أن الشرع فرق بين الزانى المحصن و غير المحصن , و كذلك الزانية , ففى حالة الإحصان تتعدد الماءات فى المكان الواحد , لذلك سئلنا فى سان فرانسيسكو : لماذا أبحتم تعدد الزوجات , و لم تبيحوا تعدد الأزواج ؟ هذا منهم على سبيل قياس الرجل على المرأة : لماذا لا تتزوج المرأة و تجمع بين أربعة رجال ؟

قلت : أسألوهم , أليس عندهم أماكن يستريح فيها الشباب جنسيا" – يعنى بيوت للدعارة – قالوا : نعم فى بعض الولايات , قلت : فبماذا احتطتم لصحة المجتمع و سلامته ؟ قالوا : نجرى عليهم كشفا دوريا كل أسبوع , قلت : و هل هذا الكشف الدورى يستوعب الجميع ؟ أم أنه مجرد ( ششن ) و عينات عشوائية .

إذن : من الممكن أن يتسرب المرض بين هؤلاء الشباب , وهب أنك أجريت على إحداهن الكشف يوم الأح مثلا" , و فى يوم الاثنين جاءها المرض , فإلى كم واحد سينتقل المرض إلى أن يأتى الأحد القادم ؟ فهذه مسألة لا تستطيع السيطرة فيها على الداء .

ثم أتُجرون هذه الفحوصات على المتزوجين و المتزوجات ؟ و هل أكتشفتم بينهم مثل هذه الأمراض ؟ قالوا : لا لم يحدث أن اكتشفنا هذا بين المتزوجين . قلت : إذن كان عليكم أن تنتبهوا إلى سبب هذه الداءات , و أنها تأتى من تعدد ماءات الرجال فى المكان الواحد ؛ لأن لكل ماء سياله و له ميكروبات تتصارع , إن اجتمعت فى المكان الواحد ؛ لأن لكل ماء سياله و له ميكروبات تتصارع , إن اجتمعت فى المكان الواحد فينشأ منها المرض .

لكن حين يكون للزوجة زوج واحد , فلن نرى مثل هذه الداءات فى المجتمع , و من هنا يأتى دور الوازع الدينى , فإن فقد الوازع الدينى فلا بد من الوازع الحسى ليزجر مثل هؤلاء و يوقفهم عند حدود الله رغما عنهم , حتى و إن لم يكونوا يؤمنون بها .

إذن : هذه أقضية و مشاكل و داءات حدثت للناس بقدر ما أحدثوا من الفجور , و بقدر ما انتهكوا من حرمات الله , و انظر مثلا" لمن يضطر للسفر إلى مثل هذه البلاد , كم يكون حذرا" مفزعا حين يقيم مثلا" فى الفندق , فيأخذ أدواته الشخصية , و يخاف أن يستعمل أشياء غيره , و يحرص على نظافة المكان و تغيير الفراش قبل أن ينام عليه ... الخ كل هذه الاحتياطات .

فالشرع حين يأمر بقتل الزانى أو الزانية إنما فعل ذلك ليسلم المجتمع بأسره , و كثيرا" ما نواجه مثل هذه الاعتراضات من أصحاب الحمة الحمقاء و الشعارات الجوفاء , أهم أرحم بالخلق من الخالق ؟ ألا يرون للزلزال أو لحوادث السيارات و الطائرات التى تحصد الآلاف من الأرواح ؟ فلماذا هذه الضجة حين نبتر العضو المريض من المجتمع ؟

قوله تعالى : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ... (1) } [النور] السورة : مأخوذة من سور البيت , و هى طائفة من نجوم القرآن أو آياته محوطة ببداية و نهاية , تحمل أحكاما" و قد تكون طويلة كسورة البقرة , أو قضيرة كالإخلاص و الكوثر , فليس للسورة كمية مخصوصة ؛ لأنها توفيقية .

{ أَنزَلْنَاهَا ... (1) } [ النور] نفهم من أنزل أن الإنزال من أعلى إلى من هو أدنى منه , كما يكتب الموظف مثلا" يريد التظلم لرئيسه : أرفع إليك كذا و كذا , فيقول الأعلى : و أنا أنزلت القرار الفلانى , فالأدنى يرفع للأعلى , و الأعلى ينزل للأدنى .

لذلك يقول تعالى : ( أَنزَلْنَاهَا ) حتى للشئ الذى لا ينزل من السماء , كما قال سبحانه : { وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ... (25) } [الحديد] فالحديد و إن كان مصدره الأرض , إلا أنه لا يكون إلا بقدرة الأعلى سبحانه .

{ وَفَرَضْنَاهَا ... (1) } [النور] الشئ المفروض يعنى الواجب أن يعمل

؛ لأن المشرع قاله و حكم به و قدره , و منه قوله سبحانه : } فَنِصْفُ مَا

فَرَضْتُمْ... (237) {[البقرة] أى : نصف ما قدرتم , إذن : كل شئ له حكم فى

الشرع , فإن الله تعالى مقدره تقديرا" حكيما" على قدره .

و قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ... (1) } [النور] الآيات الواضحات , و تطلق الآيات - كما قلنا - على الآيات الكونية التى تلفت أنظارنا إلى قدرة الله و بديع صنعه , و تطلق على المعجزات التى تثبت صدق الرسل , و تطلق على آيات القرآن الحاملة للأحكام .

و فى هذه السورة كثير من الأحكام إلى أ، قال فيها الحق سبحانه : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (35) } [النور] و قال : { نُّورٌ عَلَى نُورٍ ... (35) } [النور] فطالما أنكم أخذتم نور الدنيا , و أقررتم أنه الأحسن , و أنه إذا ظهر ألغى جميع أنواركم , فكذلك خذوا نور التشريع و أعملوا به و أعلموا أنه نور على نور .

إذن : لديكم من الله نوران : نور حسى و نور معنوى .

{ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1) } [النور] بعد أن قال سبحانه أنزلت كذا و كذا أراد أن يلهب المشاعر لتستقبل آياته الاستقبال الحسن , و تطبق أحكامه التطبيق الأمثل يقول : أنزلت إليكم كذا لعلكم تذكرون , ففيها حث و إلهاب لنستفيد بتشريع الحق للخلق .