يقول سبحانه :

{ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11) }

( العصبة : الجماعة المترابطة [ القاموس القويم 2/22] قال فى [ لسان العرب – مادة : عصب ] " العصبة : جماعة ما بين العشرة إلى الأربعين "

قال ابن كثير فى تفسيره ( 3/272 ) : " الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله ابن أُبى بن سلول قبحه الله و لعنه و هو الذى تقدم النص عليه فى الحديث و قال ذلك جماعة و غير واحد . و قيل : المراد به حسان بن ثابت و هو قول غريب ") .

الإفك : لدينا نسب ثلاث للأحداث : نسبة ذهنية ، و نسبة كلامية حين تتكلم ، و نسبة خارجية . فحين أقول : محمد مجتهد . هذه قضية ذهنية ، فإن نطقت بها فهى نسبة كلامية ، فهل هناك شخص اسمه محمد و مجتهد ، هذه نسبة خارجية ، فإن وافقت النسبة الكلامية النسبة الخارجية ، فالكلام صدق ، و إن خالفت فالكلام كذب .

فالصدق أن تطابق النسبة الكلامية الواقع ، و الكذب ألا تطابق النسبة الكلامية الواقع , و الكذب قد يكون غير متعمد ، و قد يكون متعمدا" ، فإن كان متعمدا" فهو الإفك ، و إن كان غير متعمد كأن أخبره شخص أن محمدا" مجتهد و هو غير ذلك ، فالخبر كاذب ، لكن المخبر ليس كاذبا" .

فالإفك – إذن – تعمد الكذب ، و يعطى ضد الحكم ، كأن تقول : محمد مجتهد . و أنت تعلم أنه مهمل ؛ لذلك كان الإفك أفظع أنواع الكذب ؛ لأنه يقلب الحقائق و يختلق واقعا" مضادا" لما لم يحدث .

يقول تعالى : { وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى(53) } [النجم] و هى القرى التى جعل الله عاليها سافلها ، و كذلك الإفك يغير الواقع ، و يقلبه رأسا" على عقب .

و العصبة :الجماعة التى ترتبط حركتها لتحقيق غاية متحدة ، و من ذلك نقول : عصابة مخدرات ، عصابة سرقات ، يعنى : جماعة اتفقوا على تنفيذ حدث لغاية واحدة ، و منه قوله تعالى فى سورة يوسف :

{ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ...(14) } [ يوسف ]

و ما دام أهل الإفك عصبة فلابد أن لهم غاية واحدة فى التشويه و التبشيع ، و كان رئيسهم عبد الله بن أُبى بن سلول ، و هو شيخ المنافقين ، و معذور فى أن يكون كذلك ، ففى اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة كانوا يصنعون لعبد الله بن أُبى تاجا" لينصبوه ملكا" على المدينة*, فلما فوجئ برسول الله و اجتماع الناس عليه و انفضاضهم من حوله بقيت هذه فى نفسه .

* ( ذكره هشام فى السيرة النبوية ( 2/584) " أن قومه كانوا قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم ، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه و سلم و هم على ذلك ، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ، و رأى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد استلبه ملكا" فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها" مصرا" على نفاق و ضغن " ) .

لذلك فهو القائل : { لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ...(8) } [المنافقون] يقصد أنه الأعز ، فرد عليه الحق – تبارك و تعالى – صدقت ، لكن العزة ستكون لله و للرسول و للمؤمنين ، و عليه فالخارج منها أنت .

وهو أيضا" القائل : { لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا ...(7) } [المنافقون] و العجيب أنه يعترف أن محمدا" رسول الله ، و يقولها علانية ، و مع ذلك ينكرها بأعماله و تصرفاته ، و يحدث تشويشا" فى الفكر و فى أداء العبارة .

و ما دام أن الحق سبحانه سمى الحادثة فى حق أم المؤمنين عائشة إفكا" فلابد أنهم قلبوا الحقائق و قالوا ما يناقض الواقع .

و القصة حدثت فى غزوة بنى المصطلق ، و كان صلى الله عليه و سلم إذا أراد غزوة أجرى قرعة بين زوجاته : من تخرج منهن معه . و هذا ما تقتضيه عدالته صلى الله عليه و سلم ، و فى هذه الغزوة أقرع بينهن فخرج السهم لعائشة فخرجت معه ، و بعد الغزوة و أثناء الاستعداد للعودة قالت السيدة عائشة : ذهبت لأقضى حاجتى فى الخلاء ، ثم رجعت إلى هودجى ألتمس عقدا" لى من ( جزع ظفار ) **و هو نوع نفيس.

**( الجَزع و الجِزع : نوع من الخرز اليمانى ، و هو الذى فيه بياض و سواد تشبه به الأعين ، و ظفار : قرية من قرى حمير منسوبة إلى ظفار أسد مدينة باليمن[لسان العرب – مادتا : جزع ،ظفر ] )

فلما عادت السيدة عائشة وجدت القوم قد ذهبوا ، و لم تجد هودجها فقالت فى نفسها لابد أنهم سيفتقدوننى و سيعودون . لكن كيف حمل القوم هودج عائشة و لم تكن فيه ؟ قالوا : لأن النساء كن خفافا" لم يثقلن ، و كانت عائشة نحيفة , لذلك حمل الرجال هودجها دون أن يشعروا أنها ليست بداخله ثم نامت السيدة عائشة فى موضع هودجها تنتظر من يأتيها ، و كان من عادة القوم أن يتأخر أحدهم بعد الرحيل ليتفقد المكان و يعقب عليه ، عله يجد شيئا" نسيه القوم أو شخصا" تخلف عن الركب .

و كان هذا المعقب هو صفوان بن المعطل** ، فلما رأى شبح إنسان نائم فاقترب منه ، فإذا هى عائشة رضى الله عنها ، فأناخ ناقته بجوارها ، و أدار وجهه حتى ركبت و سار بها دون أن ينظر إليها و عف نفسه ، بدليل أن القرآن سمى ما قالو إفكا" يعنى : مناقضا" للواقع ، فصفوان لم يفعل إلا نقيض ما قالوا .

**( هو : صفوان بن المعطل بن رحضة السلمى الذكوانى ، ابو عمرو : صحابى شهد الخندق و المشاهد كلها ، و حضر فتح دمشق ، و استشهد بأرمينية . و قيل فى سميساط . روى عن النبى صلى الله عليه و سلم حديثين . توفى عام 19 هــ ( الأعلام للزركلى 3/206) . و قال الحاكم فى مستدركه ( 3/518 ) " مات بشمشاط سنة ستين و قبره هناك ". )

و لما قدم صفوان يقود ناقته بعائشة رآه بعض أهل النفاق فاتهموها ، و قالوا فى حقهما ما لا يليق بأم المؤمنين ، و قد تولى هذه الحملة رأس النفاق فى المدينة عبد الله بن أُبى و مِسطح بن أُثاثة ، و حسان بن ثابت ، و حمنة بنت جحش امرأة طلحة بن عبيد الله و أخت زينب بنت جحش ، فروجوا هذا الاتهام و أذاعوه بين الناس .

ثم يقول سبحانه : { لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ...(11) }

[النور] لكن ما الخير فى هذا الكلام و فى أذاعته ؟ قالوا : لأن القرآن حين تتهم عائشة و تنزل براءتها من فوق سبع سموات فى قرآن يتلى و يتعبد به إلى يوم القيامة ، و حين يفضح قوم على لسان القرآن , لابد أن يعتبر الآخرون , و يخافوا إن فعلوا مخالفة أن يفتضح أمرهم ؛ لذلك جاء هذا الموقف درسا" عمليا" لمجتمع الإيمان .

نعم , أصبحت هذه الحادثة خيرا" ؛ لأنها نوع من التأييد لرسول الله و لدعوته ، فالحق – تبارك و تعالى – يؤيد رسوله فى الأشياء المسرة ليقطع أمل أعدائه فى الانتصار عليه ، و لو بالتدليس ، و بالمكر و لو بالإسرار و الكيد الخفى ، ففى ذروة عداء قريش لرسول الله كان إيمان الناس به يزداد يوما" بعد يوم .

و قد ائتمروا عليه و كادوا له ليلا" ليلة الهجرة ، فلم يفلحوا ، فحاولوا أن يسحروه ، و فعلا" صنعوا له سحرا" ، ووضعوه فى بئر ذروان فى مشط و مشاطة , فأخبره بذلك جبريل عليه السلام ، فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا" فجاء به

( حديث متفق عليه أخرجه البخارى فى صحيحه (3268) ، و كذا مسلم فى صحيحه (2189) كتاب السلام أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " جاءنى رجلان فقعد أحدهما عند رأسى و الآخر عند رجلى فقال الذى عند رأسى للذى عند رجلى ، أو الذى عند رجلى للذى عند رأسى : ما وجع الرجل ؟ قال : مطبوب ، قال : من طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم . قال : فى أى شئ ؟ قال : فى مشط و مشاطة . قال و جف طلعة ذكر . قال . فأين هو ؟ قال : فى بئر ذى ذروان " ) .

إذن : عجزوا فى المواجهة ، و عجزوا فى التبيت و الكيد ، و عجزوا حتى فى استخدام الجن و الاستعانة به ، و هنا أيضا" عجزوا فى تشويه صورة النبوة و النيل من سمعتها ، و كأن الحق سبحانه يقول لأعدائه : اقطعوا الأمل فلن تنالوا من محمد أبدا" ، و من هنا كانت حادثة الإفك خيرا" لجماعة المؤمنين .

و مع ذلك ، لم يجرؤ أحد أن يخبر السيدة عائشة بما يقوله المنافقون فى حقها ، لكن تغير لها رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلم يعد يداعبها كعادته ، و كان يدخل عليها فيقول : " كيف تيكم " و قد لاحظت عائشة هذا التغير لكن لا تعرف له سببا" إلى أن تصادف أن سارت هى و أم مِسطح أحد هؤلاء المنافقين ، فعثرت فقالت : تعس مِسطح فنهرتها عائشة : كيف تدعو على ابنها ، فقالت : إنك لا تدرين ما يقول ؟ عندها ذهبت السيدة عائشة إلى أمها و سألتها عما يقوله الناس فأخبرتها .

لذلك لما نزلت براءة عائشة فى القرآن قال لها أبو بكر : قومى فاشكرى رسول الله ، فقالت : بل أشكر الله الذى برأنى

( قصة حادثة الإفك وردت بطولها فى صحيح البخارى ( حديث 4750 ) ، و كذا مسلم فى صحيحه ( 2770 ) ، و أحمد فى مسنده ( 6 / 59 ، 60 ) من حديث عائشة رضى الله عنها . ) .

ثم يقول الحق سبحانه و تعالى : { لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ...(11) } [النور]

عادة ما يستخدم الفعل ( كَسَبَ ) المجرد فى الخير ، و الفعل اكتسب المزيد الدال على الافتعال فى الشر ، لماذا ؟ قالوا : لأن فعل الخير يتمشى و طبيعة النفس ، و ينسجم مع ذراتها و تكوينها ، فالذى يقدم على عمل الخير لا يقاوم شيئا" فى نفسه ، و لا يعارض ملكة من ملكاته ، أو عادة من العادات.

و هذه نلاحظها حتى فى الحيوانات ، ألا ترى القطة : إن وضعت لها قطعة لحم تجلس بجوارك و تأكلها ، و إن أخذتها منك خطفا" تفر بها هاربة و تأكلها بعيدا" عنك . إذن : فى ذاتية الإنسان و فى تكوينه – و حتى فى الحيوان – ما يعرف به الخير و الشر ، و الصواب و الخطأ .

و أنت إذا نظرت إلى ابنتك أو زوجتك تكون طبيعيا" مطمئنا" ؛ لأن ملكات نفسك معك موافقة لك تختلس النظرة و تسرقها , و تحاول سترها حتى لا يلحظها أحد ، و قد ترتبك و يتغير لونك ، لماذا ؟ لأنك تفعل شيئا" غير طبيعى ، لا حق لك فيه ، فتعارضك ملكات نفسك , و ذرات تكوينك . فالأمر الطبيعى تستجيب له النفس تلقائيا" ، أما الخطأ و الشر فيحتاج إلى افتعال ، لذلك عبر عن المكر و التبيت و الكيد بــ ( اكتسب ) الدال على الافتعال .

و قوله تبارك تعالى:{ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11) } [النور]

تولى كبر الشئ : يعنى قام به و له حظ وافر فيه ، أو نقول : هو ضالع فيه ، و المقصود هنا عبد الله بن أُبى الذى قاد هذه الحملة ، و تولى القيام بها و ترويجها { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11) } [النور] أى : يناسب هذه الجريمة .