ثم يقول الحق سبحانه :

{ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(22) }

سبب نزول الآية : قال القرطبى فى تفسيره ( 6 / 4742 ) : " المشهور من الروايات أن هذه الآيات نزلت فى قصة أبى بكر بن أبى قحافة و مسطح بن أثاثة ، و ذلك انه كان ابن خالته و كان من المهاجرين البدريين المساكين و كان أبو بكر ينفق عليه ، فلما كان أمر الإفك و قال مسطح فى عائشة ابنة أبي بكر ما قال حلف أبو بكر ألا ينفق عليه و لا ينفعه بنافعة أبداً " .

 

يأتل : معناه يحلف . و قالت فرقة : معناه يقصر . [ القرطبى 6 / 4743 ] .

تورط فى حادثة الإفك جماعة من أفاضل الصحابة ممن طُبِع على الخير ، لكنه فُتِن بما قيل و انساق خلف من روجوا لهذه الإشاعة ، و كان من هؤلاء مسطح بن أثاثة ابن خالة أبى بكر الصديق ، و كان أبو بكر الصديق ، و كان أبو بكر ينفق عليه و يرعاه لفقره ، فلما قال فى عائشة ما قال و خاض فى حقها أقسم أبو بكر ألا ينفق عليه ، و قد كان يعيش و أهله فى سعة أبى بكر و فضله ؛ لأن هذه الفتنة جعلت بعض أهل الخير يضن به .

و هذا نموذج لمن ينكر الجميل و لا يقدر صنائع المعروف ، و هذا الفعل يزهد الناس فى الخير ، و يصرفهم عن عمل المعروف ، و الله تعالى يريد أن يصحح لنا هذه المسألة ، فهذه نظرة لا تتفق و طبيعة الإيمان ؛ لأن الذى يعصى الله فيك لا تكافئه إلا بأن تطيع الله فيه .

و حين تترك من أساء إليك لعقاب الله و تعفو عنه أنت ، فإنما تركته للعقاب الأقوى ؛ لأنك إن عاقبته عاقبته بقدرتك و طاقتك ، و إن تركت عقابه لله عاقبه بقدر طاقته تعالى و قدرته .

إذن : العافى أقسى قلباً من المنتقم ، و سبق أن مثلنا لذلك بالأخ حين يعتدى على أخيه الأصغر ، فيأتى الأب فيجد صغيره مهاناً مظلوماً ، فيأخذه فى حضنه ، و يحاول إرضاءه و تعويضه عما لحقه من ظلم أخيه ، كذلك الحال فى هذه المسألة و لله المثل الأعلى .

و من هنا يجب عليك أن تُسَـﱠــر بمن جعل الله فى جانبك ، و تـُـحسن إليه ، لا أن ترد له الإساءة بمثلها .

إذن : نزلت هذه الآية فى مسطح بن أثاثة حين أقسم أبو بكر ألا ينفق عليه و على أهله ، و أن يمنع عنه عطاءه و بره ، نزلت لتصحح للصديق هذه النظرة و توجه انتباهه إلى جانب الخير الباقى عند الله لا عند الناس .

فقال تعالى : { وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ ...(22) } [النور]

{ يَأْتَلِ...(22) } [النور] ائتلى مثل اعتلى تماماً ، و منها تألى يعنى : حلف و أقسم ، يوجه الحق تبارك و تعالى – الصديق أبا بكر ، و يذكر لفظ { أُوْلُوا...(22) } [النور] الدال على الجماعة لتعظيمه لما له من فضل و منزلة فى الإسلام ، ففى كل ناحية له فضل ؛ لذلك أعطاه وصفين مثل ما أعطى للنبى صلى الله عليه و سلم ، فقال للصديق : { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ...(22) } [النور] و قال للنبى صلى الله عليه وسلم : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ...(13) } [المائدة]

كذلك ألا ترى الصديق ثانى اثنين فى الغار ، و ثانى اثنين فى أمور كثيرة ، فهو ثانى اثنين فى الهجرة ، و ثانى اثنين فى قبول دعوة الإسلام الأولى ؛ لذلك صدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قال عن الصديق : " كنت أنا و أبو بكر فى الجاهلية كفرسى رهان " . يعنى : فى التسابق فى الخير " فسبقته إلى النبوة فاتبعنى ، و لو سبقنى إليها لاتبعته "

( عن أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إن أمن الناس على فى صحبته و ماله أبو بكر ، و لو كنت متخذاً خليلاً غير ربى لاتخذت أبا بكر ، و لكن أخوة الإسلام و مودته ، لا يبقين فى المسجد باب إلا سُــدﱠ ، إلا باب أبى بكر " أخرجه البخارى فى صحيحه ( 3654 ) . )

و لما كان لأبى بكر أفضال كثيرة فى زوايا متعددة لم يخاطبه بصيغة المفرد ، إنما بصيغة الجمع تكريماً و تعظيماً .

ألا ترى الصديق مع ما عُرف عنه من الحلم و رقة القلب لما انتقل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الرفيق الأعلى و حدثت مسألة الردة يقف و يقول : " و الله لو منعونى عقال بعير كانوا يؤدونها لرسول الله لجالدتهم بالسيف ، لو لم أجد إلا الذر "

( حديث متفق عليه . أخرجه البخارى فى صحيحه ( 7284 ، 7285 ) ، و كذا مسلم فى صحيحه ( 20 ) كتاب الإيمان من حديث أبى هريرة بلفظ : " و الله لو منعونى عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم على منعه " .

هذا موقف الصديق رقيق القلب ، لين الجانب ، صاحب الرحمة و الحنان ، الذى تقول عنه ابنته " إنه رجل بكّاء" *يعنى : كثير البكاء . فى حين يعارضه فى أمر الحرب عمر مع ما عُرف عنه من الشدة و القسوة على الكفار . لكن هذا التناقض فى موقف كل منهما يقوم دليلاً على أن الإسلام ليس طَبْعا غالباً على المسلم إنما موقف يعود المسلم إليه ، فموقف الردة هو الذى جعل من الصديق أسداً شجاعاً قاسي القلب ، و لو أن عمر فى مكانه من المسئولية و فعل كما فعل الصديق لقالوا : شِدة ألفها الناس من عمر .

* ( أخرجه البخارى فى صحيحه ( 476 ) كتاب الصلاة عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت : [ و كان أبو بكر رجلاً بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن ] "

فكأن الإسلام لا يريد أن يطبع المسلم على طبع خاص يظل عليه ، إنما الموقف هو الذى يطبعك إيمانياً ، و هذا ما ذكرناه فى قوله تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ...(29) } [الفتح]

فالمسلم ليس مفطوراً لا على الشدة وحدها ، و لا على الرحمة وحدها ، إنما عليه أن يتصرف فى كل موقف بما يناسبه على ضوء ما شرع الله .

فقوله تعالى : { أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ ...(22) } [النور] يقول للصـديق : أنت رجل فاضل صديق ، و عندك سعة فلا تعطى و لا تؤثر على نفسك من ضيق ، و لا يليق بالفاضل أن يقطع صلته و رحمه لمثل هذا الخطأ الذى وقع فه مِسطح ، خاصة أنه أخذ جزاءه كما شرع الله ، و عوقب بحد القذف ثمانين جلدة ، و ليس لك أن تعاقبه بعد ذلك .

و من سماحة الإسلام أن من وقع فى حد و عوقب به لا يجوز لأحد أن يعيره بذنبه ؛ لأنه تاب و أناب و طهره الله منه بالحد ، و انتهت المسألة ، و ليس لأحد أن يدخل بين العبد و ربه .

فكأن الحق - تبارك و تعالى – يقول : ارجع إلى فضلك يا أبا بكر ، و عد أنت إلى سعتك ، و كن موصول المروءة ، و لا تقطع رحمك ، يريد – سبحانه و تعالى – أن يصفى ما فى النفوس من آثار هذه الفتنة التى زلزلت المجتمع المؤمن فى المدينة .

و لا يليق بذى الفضل و السعة أن يعامل الناس بالعدل ، فصحيح أن مِسطح كان يستحق هذه القطيعة و هذا الحرمان ، إنما هذا الجزاء لا يليق بالصديق صاحب الفضل و السعة .

و لو أجريت إحصاء للمؤمنين بإله و للكافرين فى الكون ، ستعلم أن المؤمنين قلة و الكافرين كثرة ، فهل قال الله تعالى لجنود خيره فى الكون : أعطوا من آمن ، و اتركوا من كفر ؟ و كأن الحق – تبارك و تعالى – يعطينا مثلاً فى ذاته عز و جل ، فكما أنه يعطى من كفر به و يرزقه ، بل ربما كان أحسن حالاً ممن آمن ، فأنت كذلك لا تمنع عطاءك عمن أساء إليك .

 

لذلك يقول سبحانه فى آية أخرى :

{ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(224) [البقرة]

فإن كنت باراً بأحد و بدر منه شئ فلا تحلف بالله أنك لا تبره ، فقد تهدأ ثورتك عليه ، و تريد أن تبره ، و تتحجج بحلفك ، إذن : لا تجعلوا الله عرضة لحلف يمنعكم من المعروف .

ثم يقول سبحانه : { أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...(22) } [النور] صحيح أن مِسطح من ذوى قربى أبي بكر و من المساكين ، لكن يعطيه الله نيشاناً آخر ، فلم يخرجه ما قال من وصف المهاجر ، و لم يخرجه ذنبه من هذا الشرف العظيم .

فمن فضل الله تعالى على عباده أن السيئة لا تحبط الحسنة ، إنما الحسنة بعد السيئة تحبطها ، كما قال عز و جل : { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ...(114) } [هود]

فرغم ما وقع فيه مِسطح ، فقد أبقاه الله فى العَتْب على أبي بكر ، و تحنين قلبه ، و أبقاه فى المهاجرين .

{ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ...(22) } [النور] العفو : ترك العقوبة على الذنب ، لكن قد تعفو عن المذنب ثم تؤنبه ، و تمن عليه بعفوك ، و تذكره دائماً أنه لا يستحق منك هذا العفو ؛ لذلك يحثنا ربنا – تبارك و تعالى – على الصفح بعد العفو ، و الصفح : ترك المن و عدم ذكر الزلة لصاحبها حتى تصبح العقوبة عنده أهون من عفوك عنه .

ذلك لأن الحق سبحانه حينما يشرع للبشر ما ينظم العلاقات بينهم يراعى جميع ملكات النفس ، لا يقتصر على الملكات العالية فحسب ، إنما لكل الملكات التى تنتظم الخلق جميعاً ، و ليأخذ كل منا على قدر إيمانه و امتثاله لأمر ربه .

و فى ذلك يقول سبحانه : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ(126) } [النحل]

و لو تأملنا حقيقة المثلية فى رد الإساءة لوجدناها صعبة فى تقديرها ، فإن ضربك شخص ضربة ، أعندك القدرة التى ترد بها هذه الضربة بمثلها تماماً بنفس الطريقة ، و بنفس القوة ، و بنفس الألم ، بحيث لا تكون أنت معتدياً ؟ إنك لو تأملت هذه المثلية لفضلت العفو بدل الدخول فى متاهات أخرى .

و سبق أن ذكرنا قصة المرابى الذى اشترط على المدين إن تأخر فى السداد أن يقطع رطلاً من لحمه ، و لما تأخر الرجل فى السداد خاصمه عند القاضى ، و أخبره بما كان بينهما من شرط ، و كان القاضى ذكياً فقال للمرابى : خذ السكين و اقطع رطلاً من لحمه ، لكن إن زاد أخذناه منك ، و إن نقص أخذناه منك ، فتراجع المرابى لأنه لا يستطيع تقدير هذه المسألة .

فإن انصرفنا عن المعاقبة بالمثل وَسِعَنا العفو ، و انتهت المسألة على خير ما يكون .

و فى مرتبة أخرى يقول سبحانه : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134) } [آل عمران]

فالحق - تبارك و تعالى – يجعل لنا مراتب فى رد السيئة ، فالعقاب بالمثل مرتبة ، و كَظْم الغيظ مرتبة ، و العفو مرتبة ، و الصفح مرتبة ، و أعلى ذلك كله مرتبة الإحسان إلى من أساء إليك { وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134) } [آل عمران]

ثم يجعل الحق سبحانه من نفسه أسوة لعباده فيقول : { أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ...(22) } [النور] فكما تحب أن يغفر الله لك ذنبك ، فلماذا لا تغفر أنت لمن أساء إليك ؟ و كأن ربنا – عز و جل – يريد أن يصلح ما بيننا ؛ لذلك لما نزلت الآية هذه فى شأن أبى بكر قال : أحب يا رب ، أحب يا رب ، أحب يا رب ( ذكر ابن كثير فى تفسيره ( 3 / 276 ) أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قال : بلى و الله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا ، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة و قال : لا أنزعها منه أبداً ، فى مقابلة ما كان قال ، و الله لا أنفعه بنافعة أبداً . )

و معنى { أَلَا...(22) } [النور] أداة للحض و للحث على هذا الخُلُق الطيب { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(22) } [النور] فمن تخلق بأخلاق الله تعالى فليكن له غفران ، و ليكن لديه رحمة ، و من منا لا يريد أن يتصف ببعض صفات الله ، فيتصف بأنه غفور و رحيم ؟