يقول الحق سبحانه :

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)

نعلم جميعاً أن اللسان هو الذى يتكلم ، فماذا أضافت الآية :

{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ... (24) } [النور]

قالوا : فى الدنيا يتكلم اللسان و ينطق ، لكن المتكلم فى الحقيقة أنت ؛ لأنه ما تحرك إلا بمرادك له ، فاللسان آلة خاضعة لإرادتك ، إذن : فهو مجرد آلة ، أما فى الآخرة فسوف ينطق اللسان على غير مراد صاحبه ؛ لأن صاحبه ليس له مراد الآن .

و لتقريب هذه المسألة : ألا ترى كيف يخرس الرجل اللبيب المتكلم ، و يمسك لسانه بعد طلاقته ، بسبب مرض أو نحوه ، فلا يستطيع بعدها الكلام ، و هو ما يزال فى سعة الدنيا . فما الذى حدث ؟ مجرد أن تعطلت عنده آلة الكلام ، فهكذا الأمر فى الآخرة تتعطل إرادتك و سيطرتك على جوارحك كلها ، فتنطق و تتحرك ، لا بإرادتك ، إنما بإرادة الله و قدرته .

فالمعنى { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ... (24) } [النور] أى : شهادة و نطقاً على مراد الله ، لا على مراد أصحابها .

و لم نستبعد نطق اللسان على هذه الصورة ، و قد قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82) } [يس] و قد جعل فيك أنت أيها الإنسان نموذجاً يؤكد صدق هذه القضية . فقل لى : ماذا تفعل إن أردت أن تقوم الآن من مكان ؟ مجرد إرادة القيام ترى نفسك قد قمت دون أن تفكر فى شئ ، و دون أن تستجمع قواك و فكرك و عضلاتك ، إنما تقوم تلقائياً دون أن تدرى حتى كيفية هذا القيام ، و أى عضلات تحركت لآدائه .

و لك أن تقارن هذه الحركة التلقائية السلسة بحركة الحفار أو الأوناش الكبيرة ، و كيف أن السائق أمامه عدد كبير من العصى و الأذرع ، لكل حركة فى الآلة ذراع معينة .

فإذا كان لك هذه السيطرة و هذا التحكم فى نفسك و فى أعضائك ، فكيف تستبعد أن يكون لربك – عز و جل – هذه السيطرة على خَلقْه فى الآخرة ؟

إذن : فاللسان محل القول ، و هو طوع إرادتك فى الدنيا ، أما فى الآخرة فقد شُلت هذه الإرادة و دخلت فى قوله تعالى : { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(16) } [غافر]

ثم يقول سبحانه : { وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24) } [النور] و هذه جوارح لم يكن لها نُطق فى الدنيا ، لكنها ستنطق اليوم . و يحاول العلماء تقريب هذه المسألة فيقولون : إن الجارحة حين تعمل أى عمل يلتقط لها صورة تسجل ما عملت ، فنطقها يوم القيامة أن تظهر هذه الصورة التى التقطت .

و الأقرب من هذا كله أن نقول : إنها تنطق حقيقة ، كما قال تعالى حكاية عن الجوارح : { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21) } [فصلت]

و معنى :{ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } أن لكل شئ فى الكون نُطقاً يناسبه ، كما نطقت النملة و قالت : { يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ...(18) } [النمل] و نطق الهدهد ، فقال : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ(22) } [النمل]

و قد قال تعالى عن نطق هذه الأشياء : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ...(44) } [الإسراء]

لكن ، إن أراد الله لك أن تفقه نُطقهم فقهك كما فقه سليمان عليه السلام ، حين فهم عن النملة : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا ...(19) } [النمل] كما فَهِم عن الهدهد ، و خاطبه فى قضية العقيدة .

و إن كان النطق عادة يفهم عن طريق الصوت ، فلكل خلق نطقه الذى يفهمه جنسه ؛ لذلك نسمع الآن مع تقدم العلوم عن لغة للأسماك ، و لغة للنحل ... إلخ .

و سبق أن قلنا : إن الذين قالوا من معجزات النبى صلى الله عليه و سلم أن الحصى سبح فى يده ، نقول : عليكم أن تُعدلوا هذه العبارة ، قولوا : سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم تسبيح الحصى فى يده ، و إلا فالحصى مُسبح فى يده صلى الله عليه و سلم ، كما هو مُسبح فى يد أبى جهل .

و لو سألت هذه الجوارح : لم شهدت على و أنت التى فعلت ؟ لقالت لك : فعلنا لأننا كنا على مرادك مقهورين لك ، إنما يوم ننحل عن إرادتك و نخرج عن قهرك ، فلن نقول إلا الحق .