يقول رب العزة سبحانه :

{ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30) }

 

 

تحدثت سورة النور من أولها عن مسألة الزنا و القذف و الإحصان ، و حذرت من اتباع خطوات الشيطان التى تؤدى إلى هذه الجريمة ، و تحدثت عن التكافؤ فى الزواج ، و أن الزانى للزانية ، و الزانية للزانى ، و الخبيثون للخبيثات و الطيبون للطيبات .

و هذا منهج متكامل يضمن سلامة المجتمع و الخليفة لله فى أرضه ، فالله تعالى يريد مجتمعاً تضئ فيه القيم السامية ، مجتمعاً يخلو من وسائل ( العكننة ) و المخالفة و الشحناء و البغضاء ، فلو أننا طبقنا منهج الله الذى ارتضاه لنا لارتاح الجميع فى ظله .

و مسألة غض البصر التى يأمرنا بها ربنا – عز و جل – فى هذه الآية هى صمام المان الذى يحمينا من الانزلاق فى هذه الجرائم البشعة ، و يسد الطريق دونها ؛ لذلك قال تعالى : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ...(30) } [النور]

و قلنا : إن للإنسان وسائل إدراكات متعددة ، و كل جهاز إدراك له مناط : فالأذن تسمع الصوت ، و الأنف يشم الرائحة ، و اللسان للكلام ، و لذوق المطعومات ، و العين لرؤية المرئيات ، لكن أفتن شئ يصيب الإنسان من ناحية الجنس هى حاسة البصر ؛ لذلك وضع الشارع الحكيم المناعة اللازمة فى طرفى الرؤية فى العين الباصرة و فى الشئ المبصر ، فأمر المؤمنين بغض أبصارهم ، و أمر المؤمنات بعدم إبداء الزينة ، و هكذا جعل المناعة فى كلا الطرفين .

 

 

و حين تتأمل مسألة غض البصر تجدها من حيث القسمة العقلية تدور حول أربع حالات : الأولى : أن يغض هو بصره و لا تبدى هى زينتها ، فخط الفتنة مقطوع من المرسل و من المستقبل ، الثانية: أن يغض هو بصره و أن تبدى هى زينتها ، الثالثة : أن ينظر هو و لا تبدى هى زينتها . و ليس هناك خطر على المجتمع أو فتنة فى هذه الحالات الثلاث فإذا توفر جانب انعدام الآخر . إنما الخطر فى القسمة الرابعة : و هى أن ينظر هو و لا يغض بصره ، و أن تتزين هى و تُبدى زينتها ، ففى هذه الحالة فقط يكون الخطر .

إذن : فالحق - تبارك و تعالى – حرم حالة واحدة من أربع حالات ؛ ذلك لأن المحرمات هى الأقل دائماً ، و هذا من رحمة الله بنا ، بدليل قوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ...(151) } [الأنعام] فالمحرمات هى المحصورة المعدودة ، أما المحللات فهى فوق الحصر و العد ، فالأصل فى الأشياء أنها حلال ، و إذا أراد الحق سبحانه تحريم شئ نص عليه ، فانظر إلى هذه المعاملة الطيبة من ربك عز و جل .

و كما أمر الرجل بغض بصره ، كذلك أُمرت المرأة بغض بصرها ، لأن اللفتة قد تكون أيضاً للرجل ذى الوسامة و .. و فإن كان حظ المرأة فى رجل تتقحمه العين ، فلربما نظرت إلى غيره ، فكما يُقال فى الرجال يُقال فى النساء .

هذا الاحتياط و هذه الحدود التى وضعها الله عز و جل و ألزمنا بها إنما هى لمنع هذه الجريمة البشعة التى بُدئَتْ بها هذه السورة ؛ لأن النظر أول وسائل الزنا ، و هو البريد لما بعده ، ألا ترى شوقى رحمه الله حين تكلم عن مرال الغَزَل يقول :

نَظْرَةٌ فابتسَامَةٌ فسَلاَمٌ فكَلامٌ فموعِدٌ فَلِقَاءٌ

فالأمر بغض البصر ليسد منافذ فساد الأعراض ، و منع أسباب تلوث النسل ؛ ليأتى الخليفة لله فى الأرض طاهراً فى مجتمع طاهر نظيف شريف لا يتعالى فيه أحد على أحد ، بأن له نسباً و شرفاً ، و الآخر لا نسب له .

ذلك ليطمئن كل إنسان على أن مَنْ يليه فى الخلافة من أبناء أو أحفاد إنما جاءوا من طريق شرعى شريف ، فيجتهد كل إنسان فى أن يُنشئ أطفاله تنشئة فيها شفقة ، فيها حنان و رحمة ؛ لأنه واثق أنه ولده ، ليس مدسوساً عليه ، و أغلب الظن أن الذين يُهملون أطفالهم و لا يُراعون مصالحهم يشكون فى نسبهم إليهم .

و لا يصل المجتمع إلى هذا الطهر إلا إذا ضمنت له الصيانة الكافية ، لئلا تشرد منه غرائز الجنس ، فيعتدى كل نظر على ما لا يحل له ؛ لأن النظر بريد إلى القلوب ، و القلوب بريد إلى الجنس ، فلا يعف الفرج إلا بعفاف النظر .

و نلحظ فى قوله تعالى : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ...(30) } [النور] دقة بلاغ الرسول عن ربه – عز و جل – و أمانته فى نقل العبارة كما أُنزلتْ عليه ، ففى هذه الآية كان يكفى أن يقول رسول الله : غُضوا أبصاركم ، لكنه التزم بنص ما أُنزل عليه ؛ لأن القرآن لم ينزل للأحكام فقط ، و إنما القرآن هو كلام الله المنزل على رسوله و الذى يُتعبد بتلاوته ، فلابد أن يُبلغه الرسول كما جاءه من ربه .

لذلك قال فى البلاغ عن الله ( قُلْ) و فى الفعل ( يَغضوا ) دلالة على ملحظية ( قل ) ، فالفعل ( يغضوا ) مضارع لم تسبقه أداة جزم ، و مع ذلك حُذفت منه النون ، ذلك لأنه جعل ( قُلْ ) ملحظية فى الأسلوب .

و المعنى : إن تقُل لهم غُضوا أبصاركم يغضوا ، فالفعل – إذن – مجزوم فى جواب الأمر ( قُلْ )

إذن { قُل ...(30) } [النور] تدل على أمانة الرسول فى البلاغ ، و على أن القرآن ما نزل للأحكام فحسب ، إنما هو أيضاً كلام الله المعجز ؛ لذلك نحافظ عليه و على كل لفظة فيه ، و كأن رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ما أتيت لكم بشئ من عندى ، و مهمتى

أن أبلغكم ما قال الله لى .

و قوله : { لِّلْمُؤْمِنِينَ...(30) } [النور] فما داموا مؤمنين بإله حكيم ، و قد دخلوا حظيرة الإيمان باختيارهم لم يُرغمهم عليه أحد ، فلابد أن يلتزموا بما أمرهم ربهم به و ينفذوه بمجرد سماعه .

و الغض : النقصان ، يقال : فلان يغض من قدر فلان يعنى : ينقصه ، فكيف يكون النقصان فى البصر ؟ أينظر بعين واحد ؟ قالوا : البصر له مهمة ، و به تتجلى المرائى ، و العين مجالها حر ترى كل ما أمامها سواء أكان حلالاً لها أو مُحرماً عليها .

فنقص البصر يعنى : قَصْره على ما أحل ، و كفه عما حُرم ، فالنقص نقص فى المرائى و فى مجال البصر ، فلا تعطى له الحرية المطلقة فينظر إلى كل شئ ، إنما تُوقِفه عند أوامر الله فيما يُرى و فيما لا يرى .

و { مِنْ...(30) } [النور] فى قوله تعالى : { مِنْ أَبْصَارِهِمْ ...(30) } [النور] البعض يرى أنها للتبعيض كما تقول : كُلْ من هذا الطعام يعنى : بعضاً منه ، فالمعنى : يغضوا بعض البصر ؛ لأن بعضه حلال لا أغض عنه بصري ، و بعضه محرم لا أنظر إليه .

 

أو : أن { مِنْ...(30) } [النور] هنا لتأكيد العموم فى أدنى مراحله ، و سبق أن تكلمنا عن ( مِنْ ) بهذا المعنى ، و نحن كلما توغلنا فى التفسير لابد أن تقابلنا أشياء ذكرناها سابقاً ، و نحيل القارئ عليها .

قلنا : فرق بين قولك : ما عندى مال ، و قولك : ما عندى من مال . ما عندى مال ، يحتمل أن يكون عندك مال قليل لا يُعتد به ، لكن ما عندى من مال نفى لجنس المال مهما قَل ، فمِنْ تعنى بداية ما يقال له مال .

فالمعنى هنا : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ...(30) } [النور] يعنى : بداية ما يُقال له بصر ، و لو لمحة خاطفة ، ناهيك عن التأمل و إدامة البصر .

و قلنا : إن الشرع لا يتدخل فى الخواطر القلبية و الهواجس ، إنما يتدخل فى الأعمال النزوعية التى يترتب عليها فعل ، قلنا : لو مررت ببستان فرايت به وردة جميلة ، فأعجبت بها و سررت و انبسطت لها أسارير نفسك ، كل هذا مباح لك لا حرج عليك فيه ، فإن تعدى الأمر ذلك فمددت إليها يدك لتقطفها ، هنا يتدخل الشرع يقول لك : قِفْ ، فليس هذا من حقك لأنها ليست لك .

هذه قاعدة عامة فى جميع الأعمال لا يستثنى منها إلا النظر وحده ، و كأن ربنا – عز و جل – يستسمحنا فيه ، هذه المسألة من أجلنا و لصالحنا نحن و لراحتنا ، بل قل رحمة بنا و شفقة علينا من عواقب النظر و ما يُخلفه فى النفس من عذابات و مواجيد .

ففى نظر الرجل إلى المرأة لا نقول له : انظر كما تحب و اعشق كما شئت ، فإن نزعت إلى ضمة أو قبلة قلنا لك : حرام . لماذا ؟ لأن الأمر هنا مختلف تماماً ، فعلاقة الرجل بالمرأة لها مراحل لا تنفصل إحداها عن الأخرى أبداً .

فساعة تنظر إلى المرأة هذا إدراك ، فإن أعجبتك و انبسطت لها أساريرك ، فهذا وجدان ، لابد أن يترك فى تكوينك تفاعلاً كيماوياً لا يهدأ ، إلا بأن تنزع فإن طاوعت نفسك فى النزوع فقد اعتديت ، و إن كبت فى داخلك هذه المشاعر أصابتك بعُقد نفسية و دعتك إلى أن تبحث عن وسيلة أخرى للنزوع ؛ لذلك رحمك ربك من بداية الأمر و دعاك إلى منع الإدراك بغض البصر .

لذلك بعد أن أمرنا سبحانه بغض البصر قال : { وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ...(30) } [النور] لأنك لا تملك أن تفصل النزوع عن الوجدان ، و لا الوجدان عن الإدراك ، و إن أمكن ذلك فى الأمور الأخرى ، فحين نمنعك عن قطف الوردة التى أعجبتك لا يترك هذا المنع فى نفسك أثراً و لا وَجْداً ، على خلاف ما يحدث إن مُنعت عن امرأة أعجبتك ، و هيجك الوجدان إليها .

و حفظ الفروج يكون بأن نقصرها على ما أحله الله و شرعه فلا أنيله لغير مُحلل له ، سواء كان من الرجل أو من المرأة ، أو : أحفظه و أصونه أن يرى ؛ لأن رؤيته تهيج إلى الشر و إلى الفتنة .

{ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ...(30) } [النور] يعنى : أطهر و أسلم و أدعى لراحة النفس ؛ لأنه إما أن ينزع فيرتكب محرماً ، و يلج فى أعراض الناس ، و إما ألا ينزع فُيُكدر نفسه و يؤلمها بالصبر على ما لا تطيق .

ثم يقول سبحانه : { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30) } [النور] فهو سبحانه خالق هذه النفس البشرية ، وواضع مسألة الشهوة و الغريزة الجنسية التى هى أقوى الغرائز ليربط بها بين الرجل و المرأة ، و ليحقق بها عملية النسل و بقاء الاستخلاف فى الأرض ، و لو لم تربط هذه العلاقة بالشهوة الملحة لزهَدَ الكثيرون فى الزواج و فى الإنجاب و ما يترتب عليه من تبعات .

ألا ترى المرأة و ما تعانيه من آلام و متاعب فى مرحلة الحمل ، و أنها ترى الموت عند الولادة ، حتى إنها لتقسم أنها لا تعود ، لكن بعد أن ترى وليدها و تنسي آلامها سرعان ما يعودها الحنين للإنجاب مرة أخرى ، إنها الغريزة التى زرعها الله فى النفس البشرية لدوام بقائها .

و للبعض نظرة فلسفية للغرائز ، خاصة غريزة الجنس ، حيث جعلها الله تعالى أقوى الغرائز ، و ربطها بلذة أكثر أثراً من لذة الطعام و الشراب و الشم و السماع ... إلخ فهى لذة تستوعب كل جوارح الإنسان و ملكاته ، و ما ذلك إلا حِرصاً على بقاء النوع و دواماً للخلافة فى الأرض .