يقول الحق سبحانه لرسوله :

{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ

فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31) }

البعل : الزوج و الزوجة فهو مصدر سمى به بلفظه فلا يؤنث ، و الجمع : بعول [ القاموس القويم 1 / 76 ] .

غير أولى الإربة : أى : غير أولى الحاجة . و الإربة الحاجة . و الجمع مآرب أى حوائج . قال القرطبى فى تفسيره ( 6 / 4771 ) : " اختلف الناس فى معناه ، فقيل : هو الأحمق الذى لا حاجة به إلى النساء . و قيل : الأبله . و قيل : الرجل يتبع القوم فيأكل معهم و يرتفق بهم و هو ضعيف لا يشتهى النساء " ثم قال : " و هذا الاختلاف كله متقارب المعنى ، و يجتمع فيمن لا فهم له و لا همة ينتبه بها إلى أمر النساء " .

ذكر هنا المقابل ، فأمر النساء بما أمر به الرجال ، ثم زاد هنا مسألة الزينة . و الزينة : هى الأمر الزائد عن الحد فى الفطرية ؛ لذلك يقولون للمرأة الجميلة بطبيعتها و التى لا تحتاج إلى أن تتزين :غانية* يعنى غنيت بجمالها عن التزين فلا تحتاج إلى كحل في عينيها ، و لا أحمر فى خديها ، لا تحتاج أن تستر قُلْبها** بأسورة ، و لا صدرها بعقد ... إلخ . فإن كانت المرأة دون هذا المستوى احتاجت لشئ من الزينة ، لكن العجيب أنهن يُبالغن فى هذه الزينة حتى تصبح كاللافتة النيون على كشك خشبى مائل ، فترى مُسنات يضعن هذا الألوان و هذه المساحيق ، فيظهرن في صورة لا تليق ؛ لأنه جمال مُصطنع و زينة متكلفة يسمونها تطرية ، و فيها قال المتنبي ، و هو يصف جمال المرأة البدوية و جمال الحضرية:

حُسْن الحِضارة مَجْلوبٌ بتطْرِيةٍ....و في البَدَاوة حُسْنٌ غير مَجْلُوب ***

 

*( الغانية : الجارية الحسناء ، ذات زوج كانت أو غير ذات زوج ، سميت غانية لأنها غنيت بحسنها عن الزينة . [ لسان العرب – مادة : غنى ] )

** ( القُلْب : سوار المرأة . و القُلْب من الأسورة : ما كان قلداً واحداً . [ لسان العرب – مادة : قلب ] )

*** ( الحضارة : الإقامة فى الحضر . و الحضر : خلاف البادية ، و هى المدن و القرى و الله لريف . سميت بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار و مساكن الديار التى يكون لهم بها قرار . [ لسان العرب – مادة : حضر ] ) .

و من رحمة الله بالنساء أن قال بعد { وَلَايُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ...(31) } [النور] قال : { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ...(31) } [النور] يعنى : الأشياء الضرورية ، فالمرأة تحتاج لأن تمشى فى الشارع ، فتظهر عينيها و ربما فيها كحل مثلاً ، و تظهر يدها و فيها خاتم أو حناء ، فلا مانع أن تُظهر مثل هذه الزينة الضرورية .

لكن لا يظهر منها القرط مثلاً ؛ لأن الخمار يستره و لا ( الديكولتيه ) أو العقد أو الأسورة أو الدملك و لا الخلخال ، فهذه لا ينبغى أن تظهر . إذن : فالشارع أباح الزينة الطبيعية شريطة أن تكون فى حدود ، و أن تقصر على مَنْ جُعلَِتْ من أجله .

و نلحظ فى قوله تعالى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ...(31) } [النور] المراد تغطية الزينة ، فالجارحة التى تحتها من باب أولى ، فالزينة تغطى الجارحة ، و قد أمر الله بسَتْر الزينة ، فالجارحة من باب أولى .

و قوله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ...(31) } [النور] الخُمر : جمع خِمَار ، و هو غطاء الرأس الذى يسدل ليستر الرقبة و الصدر . الجيوب : جمع جيب ، و هو الفتحة العليا للثوب و يسمونها ( القبة ) و المراد أن يستر الخمارُ فتحة الثوب و منطقة الصدر ، فلا يظهر منها شئ .

و العجيب أن النساء تركْنَ هذا الواجب ، بل و من المفارقات أنهن يلبسن القلادة و يُعلقن بها المصحف الشريف ، إنه تناقض عجيب يدل على عدم الوعى و عدم الدراية بشرع الله مُنزِل هذا المصحف.

و تأمل دقة التعبير القرآنى فى قوله تعالى { وَلْيَضْرِبْنَ ...(31) } [النور] و الضرب هو : الوَقْع بشدة ، فليس المراد أن تضع المرأة الطرحة على رأسها و تتركها هكذا للهواء ، إنما عليها أن تُحكِمها على رأسها و صدرها و تربطها بإحكام .

لذلك لما نزلت هذه الآية قالت السيدة عائشة : رحم الله نساء المهاجرات ، لما نزلت الآية لم يكن عندهم خُمر ، فعمدْن إلى المروط فشقوها و صنعوا منها الخُمُر

( أخرجه البخارى فى صحيحه ( 4758 ، 4759 ) من حديث عائشة رضى الله عنها ، و المروط جمع مِرط و هو كساء يؤتزر به و تتلفع به المرأة ) .

 

إذن : راعى الشارع الحكيم زى المرأة من أعلى ، فقال :

{ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ...(31) } [النور] و من الأدنى فقال : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ... (59) } [الأحزاب]

ثم يقول تعالى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ...(31) } [النور] أى : أزواجهن ؛ لأن الزينة جُعِلَتْ من أجلهم { أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ ...(31) } [النور] أبو الزوج ، إلا أن يخاف منه الفتنة ، فلا تبدى الزوجة زينتها أمامه .

و معنى { أَوْ نِسَائِهِنَّ ...(31) } [النور] أى : النساء اللائى يعملْنَ معها فى البيت كالوصيفات و الخادمات { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ...(31) } [النور] و المراد هنا أيضاً ملْك اليمين من النساء دون الرجال .

و يشترط في هؤلاء النساء أن يكُن مسلمات ، فإن كُن كافرات كهؤلاء اللائى يستقدموهن من دول أخرى ، فلا يجوز للمرأة أن تُبدى زينتها أمامهن ، و أن تعتبرهن فى هذه المسألة كالرجال ، لأنهن غير مسلمات و غير مؤتمنات على المسلمة ، و ربما ذهبت فوصفتْ ما رأتْ من سيدتها للرجل الكافر فينشغل بها.

و من العلماء مَنْ يرى أن ملْك اليمين لا يخص النساء فقط ، إنما الرجال أيضاً ، فللمرأة أن تُبدى زينتها أمامهم ، قالوا : لأن هناك استقبالاً عاطفياً فى النفس البشرية ، فالخادم فى القصر لا ينظر إلى سيدته و لا بناتها ؛ لأنه لا يتسامى إلى هذه المرتبة ، إلا إذا شجعْنَهُ ، و فنحن له الباب ، و هذه مسألة أخرى .

و قوله تعالى : { أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ ...(31) } [النور] أى : التابعين للبيت ، و الذين يعيشون على فضلاته ، فتكون حياة التابع من حياة متبوعه ، فليس عنده بيت يأويه ؛ لذلك ينام فى أى مكان ، و ليس عنده طعام ؛ لذلك يُطعمه الناس و هكذا ، فهو ضائع لا هدف له و لا استقلالية لحياته ، و ترى مثل هؤلاء يأكلون فضلات الموائد و يلبسون الخِرَق و ينامون و لو على الأرصفة.

مثل ( الأهبل ) أو المعتوه الذى يعطف الناس عليه ، و ليس له مطمع فى النساء ، و لا يفهم هذه المسألة ، فلا يُخاف منه على النساء ؛ لأنه لا حاجة له فيهن ؛ و لا يتسامى لأن ينظر إلى أهل البيت .

و معنى : { غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ ...(31) } [النور] يعنى : كأن يكون كبير السن واهن القوى ، لا قدرة له على هذه المسائل ، أو يكون مجبوباً ( الجَبٌ : القطع . و المجبوب : الخصى الذى قد استؤصل ذكره و خُصْياه . فهو مقطوع الذكر . [ لسان العرب – مادة : جيب ] ) ، مقطوع المتاع ، و لا خطرَ من مثل هؤلاء على النساء .

و قوله تعالى :

{ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء ..(31) } [النور]

 

نلحظ هنا أن الطفل مفرد ، لكن وُصف بالجمع { الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء ...(31) } [النور] لماذا؟ قالوا : هذه سمَة من سمات اللغة ، و هى الدقة فى التعبير ، حيث تستخدم اللفظ المفرد للدلالة على المثنى و على الجمع .

كما نقول : هذا قاض عَدْلٌ ، و هذان قاضيان عَدْل ، و هؤلاء قضاة عَدْل ، و لم نقل : عدلان و عدول ، فإذا وحد الوصف فى الجميع بدون هوى كان الوصف كالشئ الواحد ، فالقاضى لا يحكم بمزاجه و هواه ، و الآخر بمزاجه و هواه ، إنما الجميع يصدرون عن قانون واحد و ميزان واحد . إذن : فالعدل واحد لا يُقال بالتشكيك ، و ليس لكل واحد منهم عدل خاص به ، العدل واحد .

كذلك الحال فى { الطِّفْلِ...(31) } [النور] مع أن المراد الأطفال ، لكن قال ( الطفل ) لأن غرائزه مشتركة مع الكل ، و ليس له هَوى ، فكل الأطفال – إذن – كأنهم طفل واحد حيث لم يتكون لكل منهم فكره الخاص به ، الجميع يحب اللهو و اللعب ، و لا شئ وراء ذلك ، فالجمعية هنا غير واضحة لوجود التوحيد فى الغرائز و فى الميول .

بدليل أنه إذا كَبِر الأطفال و انتقلوا إلى مرحلة البلوغ و تكون لديهم هَوى و فكر و ميل يقول القرآن عنهم : { وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ ...(59) } [النور] فنظر هنا إلى الجمع لعدم وجود التوحد فى مرحلة الطفولة المبكرة .

و من ذلك أيضاً قوله تعالى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ(24) } [الذاريات] فوصف ضيف و هى مفرد بالجمع ( مكرمين ) ؛ ذلك لأن ضيف تدل أيضاً على الجمع ، فالضيف من انضاف على البيت و له حق و التزامات لابد أن يقدمها المضيف ، مما يزيد على حاجة البيت ، و الضيف فى هذه الالتزامات واحد ، سواء كان مفرداً أو جماعة ؛ لذلك دل بالمفرد على الجمع .

و قوله تعالى : { الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء ...(31) } [النور] يظهر على كذا : لها معنيان فى اللغة : الول : بمعنى يعلم كما فى قوله تعالى : { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ...(20) } [الكهف] يعنى : إن علموا بكم و عرفوا مكانكم .

و الثاني : بمعنى يعلو و يغلب و يقهر ، كما فى قوله تعالى : { فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ ...(97) } [الكهف] أى : السد الذى بناه ذو القرنين ، فالمعنى : ما استطاعوا أن يعلوه و يرتفعوا عليه .

و هنا { لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء ...(31) } [النور] يعنى : يعرفونها و يستبينونها ، أو يقدرون على مطلوباتها ، فليس لهم عِلْم أو دراية بهذه المسائل .

ثم يقول سبحانه : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ... (31) } [النور]

الحق- تبارك و تعالى – يكشف ألاعيب النساء و حِيَلهن فى جَذْب الأنظار ، فإذا لم يلفتك إليها النظر لفتك الصوت الذى تحدثه بمشيتها كأنها تقول لك : يا بجم اسمع ، يا للى ما نتاش شايف اسمع ؛ و فى الماضى كن يلبسن الخلخال الذى يُحدث صوتاً أثناء المشى ، و الآن يجعلن فى أسفل الحذاء ما يُحدث مثل هذا الصوت أثناء المشى ، و أول مَن استخدم هذه الحيل الراقصات ليجذبن إليهن الأنظار .

و معلوم أن طريقة مشى المرأة تُبدى الكثير من زينتها التى لا يراها الناس ، و تسبب كثيراً من الفتنة ؛ لذلك يقول تعالى بعدها و فى ختام هذه المسائل : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31) } [النور]

لم يَقُل الحق تبارك و تعالى : يا من أذنبتم بهذه الذنوب التى سبق الحديث عنها ، إنما قال { جَمِيعاً ...(31) } [النور] فحث الجميع على التوبة ؛ ليدل على أن كل ابن آدم خطاء ، و مهما كان المسلم مُتمسكاً ملتزماً فلا يأمن أن تفوته هفوة هنا أو هناك ، و الله – عز و جل – الخالق و الأعلم بمَنْ خلق ؛ لذلك فتح لهم باب التوبة و حثهم عليها ، و قال لهم : ما عليكم إلا أن تتوبوا ، و علىﱠ أنا الباقى .