{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(33) }

 

في حالة إذا لم ننكح الأيامى ،ولم نُعِنهم على الزواج ، ولم يقدروا هم على القيام بنفقاته يصف لهم الحق –سبحانه و تعالى – العلاج المناسب ، وهو الاستعفاف ، وقد طلب الله تعالى من المجتمع الإسلامي سواء – تمثَّل في أولياء الأمور أو المجتمع العام –أن ينهض بمسألة الأيامى ، وأنْ يعينهم على الزواج ، فإنْ لم يقُمْ المجتمع بدوره ، ولم يكُنْ لهؤلاء الأيامى قدرة ذاتية على الزواج ، فليستعفف كل منهم حتى يغنيهم الله ، مما يدل على أن التشريع يبني أحكامه ، ويُراعي كل الأحوال ، سواء أطاعوا جميعاً أو عَصَوا جميعاً.

وقوله تعالى : {وَلْيَسْتَعْفِفِ ......(33) } [ النور] يعني : يحاول العفاف ويطلبه ويبحث عن أسبابه ، يجاهد أن يكون عفيفاً، وأول أسباب العفاف أن يغضَّ بصره حين يرى ، فلا يوجد له مُهيِّج ومثير ، فإنْ وجد في نفسه فُتوة وقوة فعلية أن يُلجمها ويُضعِفها بالوسائل الشرعية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" يا معشر الشباب مَن أستطاع منكم الباءة –يعني : نفقات الحياة الزوجية – فليتزوج، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء*)**

*(الوجاء: هو أن تُضرب الخصيتان ضربة شديدة تذهب شهوة الجماع وينزل منزلة الخصي. وقال ابن منظور في [ اللسان-مادة:وجأ] : أراد أن الصوم يقطع النكاح كما يقطعه الوجاء.)"

**حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5065) ، ومسلم في صحيحه (1400) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .

والصوم يعمل على انكسار هذه الشهوة ويُهدِّىء من شراسة الغريزة؛ ذلك لأنه يأكل فقط ما يقيم أَوْدَه، و لا يبقى في بدنه ما يثير الشهوة ، كما جاء في الحديث الشريف:" بحسْب ابن آدم لقيمات يُقِمْنَ صُلْبه......."-

( أخرجه احمد في مسنده (4/132) ، والترمذي في سنته (2380) من حديث المقدام ابن معدى كرب وتمامه :" ما ملاْ آدمي وعاء شراً من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صُلْبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه و ثلث لشرابه و ثلث لنفَسه ".)

 

أو: أن يُفرِّغ الشاب نفسه للعمل المفيد الذي يشغله ويستنفد جَهْده وطاقته ، التي إن لم تصرف في الخير صرفت في الشر ،وبالعمل يثبت الشاب ذاته ،و يثق بنفسه ، ويكتسب الحلال الذي يُشجِّعه مع الأيام على الزواج وتحمُّل مسئولياته.

لذلك قال تعالى : {وَلْيَسْتَعْفِفِ ......(33) } [ النور]

ولم يقُلْ: وليعف ، فالمعنى ليسلك سبيل الإعفاف لنفسه وليسْعَ إليه، بأن يمنع المهيّج بالنظر ويُهدىء شراسة الغريزة بالصوم ، أو بالعمل فيشغل وقته ويعود آخر النهار متعباً يريد أن ينام ليقوم في الصباح لعمله نشيطاً ، وهكذا لا يجد فرصة لشيء مما يغضب الله .

ومعنى : { الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً ....(33) } [ النور] أي : بذواتهم قدرة أو بمجتمعهم معونة.

وقوله تعالى : { حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ .....(33) } [ النور] يدل على أن الاستعفاف وسيلة من وسائل الغنى؛ لأن الاستعفاف إنما نشأ من إرادة التقوى ، وقد قال تعالى في قضية قرآنية :{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً(2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (3)} [الطلاق] فمن هذا الباب يأتيه غِنَى الله .

ثم يقول الحق سبحانه و تعالى : { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ....(33) } [ النور]

الكتاب: معروف أنه اجتماع عدة أشياء مكتوبة في ورق ، والمراد هنا المكاتبة ، وهي أن تكتب عَقْداً بينك وبين العبد المملوك ، تشترط فيه أن يعمل لك كذا وكذا بعدها يكون حراً ، إنْ أدَّى ما ذكر في عَقْد المكاتبة.

{ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً .....(33) } [ النور] يعني : إنْ كانت حريتهم ستؤدي إلى خير كأنْ ترفع عنهم ذَِلَّة العبودية ، وتجعلهم ينشطون في الحياة نشاطاً يناسب مواهبهم.

لذلك جعل الحق – سبحانه و تعالى – هذه المكاتبة مَصْرفاً من مصارف الزكاة ، فقال تعالى : { وَفِي الرِّقَابِ ......(177)} [البقرة] يعني : المماليك الذين نريد أنْ نفكَّ رقابهم من أَسْر العبودية وذُلَّّّها بالعتق ، وإنْ كان مال الزكاة يُدفع للفقراء وللمساكين.....الخ ففي الرقاب يدفع المال للسيد ليعتق عبده.

كما جعل الإسلام عِتْق الرقاب كفارة لبعض الذنوب بين العبد و بين ربه ؛ ذلك لأن الله تعالى يريد أن يُنهي هذه المسألة .

: { وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ....(33) } [ النور]

الحق –تبارك و تعالى – هو الرزاق ، والمال في الحقيقة مال الله ، لكن إنْ ملَّكك وطلب منك أن تعطي أخاك الفقير يحترم ملكيتك ، و لا يعود سبحانه في هِبَته لك ؛ لذلك يأخذ منك الصدقة على أنها قَرْض لا يردُّه الفقير ، إنما يتولى ربك عز وجل رَدَّه ، فيقول: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ......(245)} [البقرة]ولم يقُلْ سبحانه : يقرض فلاناً، وإنما يُقرض الله لأنه تعالى هو الخالق ، ومن حق عبده الذي استدعاه للوجود أَنْ يرزقه ويتكفَل له بقُوتِه.

واحترام الملكية يجعل الإنسان مطمئناً على آثار حركة حياته وثمرة جهده ، وأنها ستعود عليه ، و إلا فما الداعي للعمل ولبذل المجهود إنْ ضاعت ثمرته وحُرِم منها صاحبها ؟ عندها ستتعطل مصالح كثيرة وسيعمل الفرد على قَدْر حاجته فحسب ، فلا يفيض عنه شيء للصدقة.

ثم يقول سبحانه : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(33) } [ النور]

يُقال للملوك : فتى ، وللمملوكة : فتاة ، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول الرجل: عبدي * وأمَتي إنما يقول : فتاي وفتاتي ، فهذه التسمية أكرم لهؤلاء وأرفع ، فالفتى من الفُتوة والقوة كأنك تقول : هذا قوتي الذي يساعدني و يعينني على مسائل الحياة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يرفع من شأنهم .

* (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لا يقل أحدكم : أطعم ربك ، و ضيء ربك. وليقل سيدي مولاي. ولا يقل أحدكم : عبدي ، أمتي ، وليقل : فتاي وفتاتي وغلامي " أخرجه البخاري في صحيحه (2552) ، و مسلم في صحيحه (2249) كتاب الألفاظ من الأدب ).

و من هؤلاء جماعة المماليك الذين حكموا مصر في يوم من الأيام ، وكانوا من أبناء الملوك والسلاطين والأعيان.

والبغاء ظاهرة جاء الإسلام فوجدها منتشرة ، فكان الرجل الذي يملك مجموعة من الإماء ينصب لهُنّ راية تدل عليهن ، ويأتيهن الشباب ويقبض هو الثمن ، ومن هؤلاء عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس النفاق ، وكان عنده(مسيكة ، ومعاذة) وفيه نزلت هذه الآية –

(قال الزهري : كانت جارية لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها معاذة يُكرهها على الزنا ، فلما جاء الإسلام نزلت { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء .....(33) } [ النور] . أخرجه البزار في مسنده ( أورده ابن كثير في تفسيره 3/288) وعن جابر قال : نزلت في أمة لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها مسيكة ، كان يكرهها على الفجور وكانت لا بأس بها فتأبى فأنزل الله هذه الآية { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء .....(33) } [ النور] قاله الأعمش.)

وتأويل الآية : لا تُكرهوا الإماء على البغاء ، وقد كًُنَّ يبكين، ويرفضْنَ هذا الفعل ، وكُنَّ يؤذيْنَ ويتعرضْنَ للغمز واللمز ، ويتجرأ عليهن الناس ، وكان من هؤلاء الإماء بنات ذوات أصول طيبة شريفة ، لكن ساقتهن الأقدار إلى السَّبْي في الحروب أو خلافه ، في حين أن الحرة العفيفة تسير لا يتعرض لها أحد بسوء.

ومعنى : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً .....33) } [ النور] يتكلم القرآن هنا عن الواقع بحيث إنْ لم يُرِدْنَ تحصُّناً فلا تُكرهِوهُنَّ { لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ....(33) } [ النور] طلباً للقليل من المال الزائل { وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(33) } [ النور] لأنهن في حالة الإكراه على البغاء يفقدنَ شرط الاختيار ، فلا يتحملن ذنب هذه الجريمة ، عملاً بالحديث النبوي الشريف " رُفع عن أمتي : الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه" – (أخرج معناه ابن ماجة في سننه (2045) والدارقنطي في سننه (4/170) والحاكم في المستدرك (2/198) وصححه على شرط الشيخين عن ابن عباس بلفظ : " إن الله تجاوز عن أمتي : الخطأ والنسيان و ما استكرهوا عليه " وانظر كشف الخفاء (1/522)) -

لذلك يُطمئِن الحق –تبارك و تعالى – هؤلاء اللاتي يُرِدْنَ التحصُّن والعفاف ، لكن يكرههن سيدهن على البغاء ، ويُرغمهن بأيِّ وسيلة : اطمئنن فلا ذنبَ لَكُنَّ في هذه الحالة ، وسوف يُغفر لَكُنَّ و الله غفور رحيم.