{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ(34)}

المعنى : لا عذر لكم ؛ لأن الله تعالى قد أنزل إليكم الآيات الواضحة التي تضمن لكم شرف الحياة وطهارتها ونقاء نسل الخليفة لله في الأرض ، وهذه الآيات ما تركتْ شيئاً من أقضية الحياة إلا تناولتْ وأنزلتْ الحكم فيه ، وقد نلتمس لكم العذر لو أن في حياتكم مسألة أو قضية ما لم يتناولها التشريع و لم ينظمها .

 

لذلك يقول سيدنا الإمام علي- رضي الله عنه- عن القرآن : فيه حكم ما بينكم ، وخبر ما قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، هو الفَصْل ليس بالهَزْل ، مَنْ تركه من جبار قصمه الله ، و مَنْ ابتغى الهدى في غيره أضله الله (ذكره ابن كثير في تفسيره (3/289).

و لا يزال الزمان يُثبِت صِدْق هذه المقولة ، وانظر هنا وهناك لتجد مصارع الآراء والمذاهب والأحزاب والدول التي قامت لتناقض الإسلام ، سواء كانت رأسمالية شرسة أو شيوعية شرسة ..الخ. كلها انهارت على مَرْأىَ ومَسْمع من الجميع.

نعم ، مَنْ تركه من جبار قصمه الله ، و مَنِ ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله ، لأنه خالقك ، وهو أعلم بما يُصلحك ، فلا يليق بك-إذاً- أن تأخذ خَلْق الله لك ثم تتكبر عليه وتضع لنفسك قانوناً من عندك أنت.

وسبق أنْ قُلْنا : إن الآيات تطلق على ثلاثة إطلاقات : الآيات الكونية التي تلفتك إلى الصانع المبدع عز وجل ، و على المعجزات التي تأتي لتثبت صِدْق الرسول في البلاغ عن الله ، وتُطلق على الآيات الحاملة للأحكام و هي آيات القرآن الكريم ، و في القرآن هذا كله .

وقوله تعالى : { وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ(34)} [النور] أي: جَعلنا لكم موعظة وعبرة بالأمم السابقة عليكم ، و التي بلغت شأوها في الحضارة ، ومع ذلك لم تملك مُقوِّمات البقاء ، ولم تصنع لنفسها المناعة التي تصونها فانهارت ، ولم يبق منهم إلا آثار كالتي نراها الآن لقدماء المصريين ، وقد بلغوا من الحضارة منزلة أدهشت العالم المتقدم الحديث ، فيأتون الآن متعجبين : كيف فعل قدماء المصريين هذه الحضارة؟

وكان أعظم من حضارة الفراعنة حضارة عاد التي قال الله عنها: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ(7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ(8) } [الفجر] يعني : ليس لها مثيل في الدنيا { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ(9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ(10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ(11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ(12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ(13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14)} [الفجر] يعني : لن يفلت من المخالفين أحد، ولن ينجو من عذاب الله كافر.

والمثَل كذلك في مسألة الزنا وقَذْف المحصنات العفيفات ، كحادثة الإفك التي سبق الكلام عنها ، وأنها كانت مَثَلاً وعِبرةً ، كذلك كانت قصة السيدة مريم مثلاً وقد اتهمها قومها ، وقالوا: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً(28)} [مريم]

و كذلك كانت قصة يوسف عليه السلام وامرأة العزيز ، وكلها مسائل تتعلق بالشرف ، ولم تَخْلُ من رَمْي العفيفات المحصنات ، أو العفيف الطهر يوسف بن يعقوب عليهما السلام.

وهذه الآيات مبينات للوجود الأعلى في آيات الكون، مُبينات لصِدْق المبلغ عن الله في المعجزات ، مُبيِّنات للأحكام التي تنظم حركة الحياة في آيات القرآن ، ثم أريناهم عاقبة الأمم السابقة سواء مَنْ أقبل منهم على الله بالطاعة ، أو مَنْ أعرض عنه بالمعصية ، و لا يستفيد من هذه المواعظ والِبَر إلا المتقون الذين يخافون الله وتثمر فيهم الموعظة.