أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)

هكذا تبدأ السورة الجليلة؛ موضحة أن قضاء الله وحكمه بنصر الرسول والمؤمنين لاشك فيه ولا محالة؛ وأن هزيمة أهل الكفر قادمة، ولا مفر منها إن هم استمروا على الكفر. وقد سبق أن أنذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بما نزل عليه من آيات الكتاب؛ أنذرهم في السورة السابقة ببعض العذاب الدنيوي، كنصر الإيمان على الكفر، وأنذرهم من قبل أيضاً ببعض العذاب في الآخرة، كقول الحق سبحانه:

..... فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
(سورة غافر)


وكذلك قوله الحق:

سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
(سورة القمر)


وهكذا وعد الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يهزم معسكر الكفر، وأن ينصر معسكر الإيمان؛ وإما أن يرى ذلك بعينيه أو إن قبض الحق أجله فسيراها في الآخرة. وعن حال الرسول صلى الله عليه وسلم قال سبحانه:

إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
(سورة الحجر)


وأنذر الحق سبحانه أهل الشرك بأنهم في جهنم في اليوم الآخر، وهنا يقول سبحانه:

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ..... (1)
(سورة النحل)


وهذا إيضاح بمرحلة من مراحل الإخبار بما ينذرون به، كما قال مرة:

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
(سورة القمر)

عن أنس بن مالك رضى الله عنه ان اهل مكه سالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يريهم ىية فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهم .أخرجه البخارى فى صحيحه(2627)وكذا مسلم فى صحيحه(2802)كتاب المنافقين

أي: اقتربت ساعة القيامة التي يكون من بعدها حساب الآخرة والعذاب لمن كفر، والجنة لمن آمن وعمل صالحاً، فاقتراب الساعة غير مخيف في ذاته، بل مخيف لما فيه من الحساب والعقاب. وقيل: إن أهل الكفر لحظة أن سمعوا قول الحق سبحانه:

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ..... (1)
(سورة القمر)


قالوا: "فلننتظر قليلاً؛ فقد يكون ما يبلغ به محمد صحيحاً" وبعد أن انتظروا بعضاً من الوقت، ولم تأت الساعة كما بشر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قالوا: انتظرنا ولم تأت الساعة، فنزل قول الحق سبحانه:

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ .... (1)
(سورة الأنبياء)


وهذا حديث عن الأمر الذي سيحدث فور قيام الساعة، فهادنوا وانتظروا قليلاً، ثم قالوا: أين الحساب إذن؟ فنزل قوله تعالى:

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ..... (1)
(سورة النحل)


وساعة سمع الكل ذلك فزعوا؛ بمن فيهم من المسلمين؛ وجاء الإسعاف في قوله من بعد ذلك:

.... فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ....(1)
(سورة النحل)


أي: أن الأمر الذي يعلنه محمد صلى الله عليه وسلم لا يعلم ميعاده إلا الله سبحانه؛ واطمأن المسلمون
(
أورده الواحدى فى اسباب النزول (ص159).والقرطبى فى تفسيره وعزواه لابن عباس رضى الله عنهما). وكل حدث من الأحداث ـ كما نعلم ـ يحتاج كل منها لظرفين؛ ظرف زمان؛ وظرف مكان. والأفعال التي تدل على هذه الظروف إما فعل ماضي؛ فظرفه كان قبل أن نتكلم، وفعل مضارع. أي: أنه حل، إلا إن كان مقروناً بـ"س" أو بـ"سوف". أي: أن الفعل سيقع في مستقبل قريب إن كان مقروناً بـ"س" أو في المستقبل غير المحدد والبعيد إن كان مسبوقاً بـ"سوف"، وهكذا تكون الأفعال ماضياً، وحاضراً، ومستقبلاً.
وكلمة "أتى" تدل على أن الذي يخبرك به ـ وهو الله سبحانه ـ إنما يخبرك بشيء قد حدث قبل الكلام، وهو يخبر به، والبشر قد يتكلمون عن أشياء وقعت؛ ويخبرون بها بعضهم البعض. ولكن المتكلم هنا هو الحق سبحانه؛ وهو حين يتكلم بالقرآن فهو سبحانه لا ينقص علمه أبداً، وهو علم أزلي، وهو قادر على أن يأتي المستقبل وفق ما قال، وقد أعد توقيت ومكان كل شيء من قبل أن يخلق؛ وهو سبحانه خالق من قبل أن يخلق أي شيء؛ فالخلق صفة ذاتية فيه؛ وهو منزه في كل شيء؛ ولذلك قال:

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ .... (1)
(سورة النحل)

أي: أنه العليم بزمن وقوع كل حدث، وقد ثبت التسبيح له ذاتاً من قبل أن يوجد الخلق؛ فهو القائل:

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
(سورة الأنبياء)


ثم خلق السماوات وخلق الأرض وغيرهما. أي: أنه مسبح به من قبل خلق السماوات والأرض، وهو القائل سبحانه:

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .... (1)
(سورة الحشر)


ولكن هل انتهى التسبيح؟ لا، بل التسبيح مستمر أبداً، فهو القائل:

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .... (1)
(سورة الجمعة)


إذن: فقد ثبتت له "السبحانية" في ذاته، ثم وجد الملائكة يسبحون الليل والنهار ولا يفترون، ثم خلق السماء والأرض، فسبح ما فيهما وما بينهما؛ وجاء خلقه يسبحون أيضاً ـ فيا من آمنت بالله إلهاً سبح كما سبح كل الكون. ولقائل أن يسأل: وما علاقة "سبحانه وتعالى" بما يشركون؟ ونعلم أنهم أشركوا بالله آلهة لا تكلفهم بتكليف تعبدي، ولم تنزل منهجاً؛ بل تحلل لهم كل محرم، وتنهاهم عن بعض من الحلال، وتخلوا بذلك عن اتباع ما جاء به الرسل مبلغين عن الله من تكليف يحمل مشقة الإيمان. وهؤلاء هم من سيلقون الله، وتسألهم الملائكة: أين هم الشركاء الذين عبدتموهم مع الله؟ ولن يدفع عنهم أحد هول ما يلاقونه من العذاب.
وهكذا تعرفنا على أن تنزيه الله سبحانه وتعالى ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً هو أمر ثابت له قبل أن يوجد شيء، وأمر قد ثبت له بعد الملائكة، وثبت له بعد وجود السماوات والأرض. وهو أمر طلب الله من العبد المخير أن يفعله؛ وانقسم العباد قسمين، قسم آمن وسبح، وقسم له يسبح فتعالى عنهم الحق سبحانه لأنهم مشركون.

ويقول سبحانه من بعد ذلك: