وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)

ونعلم أن الإنسان في حياته بين أمرين؛ إما ظاعن أي: مسافر. وإما مقيم. وفي حالة المقيم، فالأنعام تحقق له الدفء والطعام والملبس. وعادة ما يكتفي متوسط الحال بأن يستقر في مكان إقامته وكذلك الفقير. أما المقتدر الغني؛ فأنت تجده يوماً في القاهرة، وآخر في الإسكندرية، أو طنطا، وقد يسافر إلي الخارج، وكل ذلك ميسور في زمن المواصلات الحديثة. وقديماً كانت وسائل المواصلات شاقة، ولا يقدر على السفر إلا من كانت لديه إبل صحيحة أو خيول قوية، أما من لم يكن يملك إلا حماراً أعجف فهو لا يفكر إلا في المسافات القصيرة. ولذلك نجد القرآن حين تكلم عن أهل سبأ يقول:

فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ .... (19)
(سورة سبأ)


وهم قد قالوا ذلك اعتزازاً بما يملكونه من خيل ووسائل سفر من دواب سليمة وقوية، تهيئ السفر المريح الذي ينم عن العز والقوة والثراء. وقوله الحق:

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ ....(7)
(سورة النحل)


يعني وضع ما يثقل على ما يثقل؛ ولذلك فنحن لا نجد إنساناً يحمل دابته؛ بل نجد من يحمل أثقاله على الدابة ليخفف عن نفسه حمل أوزان لا يقدر عليها. ونعلم أن الوزن يتبع الكثافة؛ كما أن الحجم يتبع المساحة؛ فحين تنظر إلي كيلو جرام القطن، فأنت تجد حجم كيلو جرام القطن اكبر من حجم الحديد؛ لأن كثافة الحديد مطمورة فيه، أما نفاشات القطن فهي التي تجعله يحتاج حيزاً اكبر من المساحة. ويتابع الحق سبحانه قوله في الآية الكريمة:

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ....(7)
(سورة النحل)


ومن يفتش في أساليب القرآن من المستشرقين قد يقول: "إن عجز الآية غير متفق مع صدرها". ونقول لمثل صاحب هذا القول: أنت لم تفطن إلي المنة التي يمتن بها الله على خلقه، فهم لم يكونوا بالغين لهذا البلد دون أثقال إلا بمشقة؛ فما بالنا بثقل المشقة حين تكون معهم أثقال من بضائع ومتاع؟ إنها نعمة كبيرة أن يجدوا ما يحملون عليه أثقالهم وأنفسهم ليصلوا إلي حيث يريدون. وكلمة (بشق) النحل مصدرها شق وهو الصدع بين شيئين؛ ويعني عزل متصلين؛ وسبحانه هو القائل:

فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ....(94)
(سورة الحجر)


وهناك "شق" وهو الجهد، و"شقة". والإنسان كما نعلم هو بين ثلاث حالات: إما نائم؛ لذلك لا يحتاج إلي طاقة كبيرة تحفظ له حياته؛ وأيضاً وهو متيقظ فأجهزته لا تحتاج إلي طاقة كبيرة؛ بل تحتاج إلي طاقة متوسطة لتعمل؛ أما إن كان يحمل أشياء ثقيلة فالإنسان يحتاج إلي طاقة اكبر لتعمل أجهزته. وكذلك نجد الحق سبحانه يقول:

لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ... (42)
(سورة التوبة)


والمعنى هنا بالشقة هي المسافة التي يشق قطعها، وينهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:

....إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
(سورة النحل)


والصفتان هنا هما الرأفة والرحمة، وكل منهما مناسب لما جاء بالآية؛ فالرب هو المتولي التربية والمدد، وأي رحلة لها مقصد وأي رحلة هي للاستثمار، أو الاعتبار، أو للاثنين معاً. فإذا كانت رحلة استثمار فدابتك يجب أن تكون قوية لتحمل ما معك من أثقال، وتحمل عليها ما سوف تعود به من بضائع. وإن كانت الرحلة للاعتبار فأنت تزيل بهذا السفر ألم عدم المعرفة والرغبة في الوصول إلي المكان الذي قصدته.
وهكذا تجد الرأفة مناسبة لقضاء النفع وتحقيق الحاجة وإزالة الألم. وكلمة رحيم مناسبة لمنع الألم بتحقيق الوصول إلي الغاية. وتوقف بعض من العلماء عند مقصد الرحلة؛ كأن تكون مسافراً للاتجار أو أن تكون مسافراً للاعتبار. ولكن هذا سفر بالاختيار؛ وهناك سفر اضطراري؛ كالسفر الضروري إلي الحج مرة في العمرة. والحق سبحانه يزيل ألم الحمل الثقيل، وبذلك تتحقق رأفته؛ وهو رحيم لأنه حقق لكم أمنية السفر.

ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: