وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
والسبيل هو الطريق؛ والقصد هو الغاية، وهو مصدر يأخذون منه القول (طريق قاصد) أي: طريق لا دوران فيه ولا التفاف. والحق سبحانه يريد لنا أن نصل إلي الغاية بأقل مجهود. ونحن في لغتنا العامية نسأل جندي المرور "هل هذا الطريق ماشي؟" رغم أن الطريق لا يمشي، بل أنت الذي تسير فيه، ولكنك تقصد أن يكون الطريق موصلاً إلي الغاية. وأنت حين تعجزك الأسباب تقول "خليها على الله" أي: أنك ترجع بما تعجزك أسبابه إلي المسبب الأعلى. وهكذا يريد المؤمن الوصول إلي قصدهن وهو عبادة الله وصولاً إلي الغاية، وهي الجنة، وجزاءً على الإيمان وحسن العمل في الدنيا.
وأنت حين تقارن مجرى نهر النيل تجد فيه التفافات وتعرجات؛ لأن الماء هو الذي حفر طريقه؛ بينما تنظر إلي الرياح التوفيقي مثلاً فتجده مستقيماً؛ ذلك أن البشر هم الذين حفروه إلي مقصد معين. وحين يكون قصد السبيل على الله؛ فالله لا هوى له ولا صاحب، ولا ولد له، ولا يحابي أحداً، وكل الخلق بالنسبة له سواء؛ ولذلك فهو حين يضع طريقاً فهو يضعه مستقيماً لا عوج فيه؛ وهو الحق سبحانه القائل:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
(سورة الفاتحة)


أي: الطريق الذي لا التواء فيه لأي غرض، بل الغرض منه هو الغاية بأيسر طريق. وقول الحق سبحانه هنا:

وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ...(9)
(سورة النحل)


يجعلنا نعود بالذاكرة إلي ما قاله الشيطان في حواره مع الله قال:

قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
(سورة ص)


ورد الحق سبحانه:

 قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
(سورة الحجر)


والحق أيضاً هو القائل:

إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)
(سورة الليل)


أي: أنه حين خلق الإنسان أوضح له طريق الهداية، وكذلك يقول سبحانه:

وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
(سورة البلد)


أي: أن الحق سبحانه أوضح للإنسان طرق الحق من الباطل، وهكذا يكون قوله هنا:

وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ...(9)
(سورة النحل)


يدل على أن الطريق المرسوم غايته موضوعة من الله سبحانه، والطريق إلي تلك الغاية موزون من الحق الذي لا هوى له، والخلق كلهم سواء أمامه. وهكذا .. فعلى المفكرين ألا يرهقوا أنفسهم بمحاولة وضع تقنين من عندهم لحركة الحياة، لأن واجد الحياة قد وضع لها قانون صيانتها، وليس أدل على عجز المفكرين عن وضع قوانين تنظيم حياة البشر إلا أنهم يغيرون من القوانين كل فترة، أما قانون الله فخالد باقٍ أبداً، ولا استدراك عليه. ولذلك فمن المريح للبشر أن يسيروا على منهج الله والذي قال فيه الحق سبحانه حكماً عليهم أن يطبقوه؛ وما تركه الله لنا نجتهد فيه نحن. وقوله الحق:

وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ(9)
(سورة النحل)


أي: أنه هو الذي جعل سبيل الإيمان قاصداً للغاية التي وضعها سبحانه، ذلك أن من السبل ما هو جائر؛ ولذلك قال:

...ِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ... (9)
(سورة النحل)


ولكي يمنع الجور جعل سبيل الإيمان قاصداً، فهو القائل:

وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ .... (71)
(سورة المؤمنون)


بينما السبيل العادلة المستقيمة هي السبيل المتكفل بها سبحانه، وهي سبيل الإيمان، ذلك أن من السبل ما هو جائر أي: يطيل المسافة عليك، أو يعرضك للمخاطر، أو توجد بها منحنيات تضل الإنسان، فلا يسير إلي الطريق المستقيم. ونعلم أن السبيل توصل بين طرفين (من وإلي) وكل نقطة تصل إليها لها أيضاً (من وإلي) وقد شاء الحق سبحانه ألا يقهر الإنسان على سبيل واحد، بل أراد له أن يختار، ذلك أن التسخير قد أراده الله لغير الإنسان مما يخدم الإنسان. أما الإنسان فقد خلق له قدرة الاختيار، ليعلم من يأتيه طائعاً ومن يعصى أوامره، وكل البشر مجموعون إلي حساب، ومن اختار طريق الطاعة فهو من يذهب إلي الله محباً، ويثبت له المحبوبية التي هي مراد الحق من خلق الاختيار، لكن لو شاء أن يثبت لنفسه طلاقة القهر لخلق البشر مقهورين على الطاعة كما سخر الكائنات الأخرى. والحق سبحانه يريد قلوباً لا قوالب؛ ولذلك يقول في آخر الآية:

... وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
(سورة النحل)
وكل أجناس الوجود كما نعلم تسجد لله:

... وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
(سورة الإسراء)


وفي آية أخرى يقول:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ....(41)
(سورة النور)


إذن: لو شاء الحق سبحانه لهدى الثقلين أي: الإنس والجن، كما هدى كل الكائنات الأخرى، ولكنه يريد قلوباً لا قوالب.

ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: