قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)

ويأتي الحق سبحانه هنا بسيرة الأولين والسنن التي أجراها سبحانه عليهم، ليسلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ويوضح له أن ما حدث معه ليس بدعاً؛ بل سبق أن حدث مع من سبق من الرسل. ويبلغه أنه لم يبعث أي رسول إلا بعد تعم البلوى ويطم الفساد، ويفقد البشر المناعة الإيمانية، نتيجة افتقاد من يؤمنون ويعملون الصالحات، ويتواصون بالحق وبالصبر. والمثل الواضح على ذلك ما حدث لبني إسرائيل؛ الذين قال فيهم الحق سبحانه:

كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ....(79)
(سورة المائدة)


فانصب عليهم العذاب من الله، وهذا مصير كل أمة لا تتناهى عن المنكر الظاهر أمامها. ويقول سبحانه هنا:

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... (26)
(سورة النحل)


والمكر تبييت خفي يبيته الماكر بما يستر عن الممكور به. ولكن حين يمكر أحد بالرسل؛ فهو يمكر بمن يؤيده الله العالم العليم. وإذا ما أعلم الله رسوله بالمكر؛ فهو يلغي كل أثر لهذا التبييت؛ فقد علمه من يقدر على إبطاله. والحق سبحانه هو القائل:

كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ...(21)
(سورة المجادلة)


وهو القائل:

وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)
(سورة الصافات)


وطبق الحق سبحانه ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ حين مكر به كفار قريش وجمعوا شباب القبائل ليقتلوه؛ فأغشاهم الله ولم يبصروا خروجه للهجرة ولم ينتصر عليه معسكر الكفر بأي وسيلة؛ لا باعتداءات اللسان، ولا باعتداءات الجوارح. وهؤلاء الذين يمكرون بالرسل لم يتركهم الحق سبحانه دون عقاب:

.. فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ....(26)
(سورة النحل)


أي: أنهم إن جعلوا مكرهم كالبناية العالية؛ فالحق سبحانه يتركهم لإحساس الأمن المزيف، ويحفر لهم من تحتهم، فيخر عليهم السقف الذي من فوقهم. وهكذا يضرب الله المثل المعنوي بأمرٍ محسن. وقوله الحق:

.... فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ .... (26)
(سورة النحل)


يوضح أنهم موجودون داخل هذا البيت، وأن الفوقية هنا للسقف، وهي فوقية شاءها الله ليأتيهم:

....الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
(سورة النحل)


وهكذا يأتي عذاب الله بغتة؛ ذلك أنهم قد بيتوا، وظنوا أن هذا التبييت بخفاء يخفي عن الحي القيوم.
وليت الأمر يقتصر على ذلك؛ لا بل يعذبهم الله في الآخرة أيضاً: