وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)

وقد سبق أن تحدثنا عن قوله تعالى:

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
(سورة النحل)


فهذه مشاهدة ولقطات تبين الموقف الذي انتهى بأن أقروا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين. وهذه الآيات نزلت في جماعة كانوا داخلين مكة .. وعلى أبوابها التي يأتي منها أهل البوادي، وقد قسم الكافرون أنفسهم على مداخل مكة ليصدوا الداخلين إليها عن سماع خبر أهل الإيمان بالنبي الجديد.
وكان أهل الإيمان من المسلمين يتحينون الفرصة ويخرجون على مشارف مكة بحجة رعي الغنم مثلاً ليقابلوا هؤلاء السائلين ليخبروهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم وخبر دعوته. مما يدل على أن الذي يسأل عن شيء لا يكتفي بأول عابر يسأله، بل يجدد السؤال ليقف على المتناقضات .. فحين سألوا الكافرين قالوا:

...قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
(سورة النحل)


فلم يكتفوا بذلك، بل سألوا أهل الإيمان فكان جوابهم:

...قَالُوا خَيْرًا ...(30)
(سورة النحل)


هذا لنفهم أن الإنسان إذا صادف شيئاً له وجهتان متضادتان فلا يكتفي بوجهة واحدة، بل يجب أن يستمع للثانية، ثم بعد ذلك للعقل أن يختار بين البدائل.
إذن: حينما سأل الداخلون مكة أهل الكفر:

....مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
(سورة النحل)


وحينما سألوا أهل الإيمان والتقوى:

...مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا ...(30)
(سورة النحل)


ونلاحظ هنا في:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ...(30)
(سورة النحل)


أن الحق سبحانه لم يوضح لنا من هم، ولم يبين هويتهم، وهذا يدلنا على أنهم كانوا غير قادرين على المواجهة، ويدارون أنفسهم لأنهم ما زالوا ضعافاً لا يقدرون على المواجهة. وقد تكرر هذا الموقف ـ موقف السؤال إلى أن تصل إلى الوجهة الصواب ـ حينما عتب الحق تبارك وتعالى على نبي من أنبيائه هو سيدنا داود ـ عليه السلام ـ في قوله تعالى:

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
(سورة ص)


فماذا قال داود عليه السلام؟

قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ...(24)
(سورة ص)


وواضح في حكم داود عليه السلام تأثره بقوله (له تسع وتسعون) ولنفرض أنه لم يكن عنده شيء، ألم يظلم أخاه بأخذ نعجته؟! إذن: تأثر داود بدعوى الخصم، وأدخل فيه حيثية أخرى، وهذا خطأ إجرائي في عرض القضية؛ لأن (تسع وتسعون) هذه لا دخل لها في القضية .. بل هي لاستمالة القاضي وللتأثير على عواطفه ومنافذه، ولبيان أن الخصم غني ومع ذلك فهو طماع ظالم

وسرعان ما اكتشف داود ـ عليه السلام ـ خطأه في هذه الحكومة، وأنها كانت فتنة واختباراً من الله:
....وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ....(24)
(سورة ص)


أي: اختبرناه كي نعلمه الدرس تطبيقاً .. أيحكم بالحق ويراعي جميع نواحي القضية أم لا؟ وانظر هنا إلى فطنة النبوة، فسرعان ما عرف داود ما وقع فيه واعترف به، واستغفر ربه وخر له راكعاً منيباً. وقال تعالى:

....فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ {س}(24)
(سورة ص)


إذن: الشاهد هنا أنه كان على داود ـ عليه السلام ـ أن يستمع إلى الجانب الآخر والطرف الثاني في الخصومة قبل الحكم فيها. وقوله تعالى:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا ....(30)
(سورة النحل)


ما هو الخير؟ الخير كل ما تستطيبه النفس بكل ملكاتها .. لكن الاستطابة قد تكون موقوتة بزمن، ثم تورث حسرة وندامة .. إذن: هذا ليس خيراً؛ لأنه لا خير في خير بعده النار، وكذلك لا شر في شر بعده الجنة.
إذن: يجب أن نعرف أن الخير يظل خيراً دائماً في الدنيا، وكذلك في الآخرة، فلو أخذنا مثلاً متعاطي المخدرات نجده يأخذ متعة وقتية ونشوة زائفة سرعان ما تزول، ثم سرعان ما ينقلب هذا الخير في نظره إلى شر عاجل في الدنيا وآجل في الآخرة.
إذن: انظر إلى عمر الخير في نفسك وكيفيته وعاقبته .. وهذا هو الخير في قوله تعالى:

... قَالُوا خَيْرًا .. (30)
(سورة النحل)


إذن: هو خير تستطيبه النفس، ويظل خيراً في الدنيا، ويترتب عليه خير في الآخرة، أو هو موصول بخير الآخرة .. ثم فسره الحق تبارك وتعالى في قوله سبحانه:

...لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ ...(30)
(سورة النحل)


ونفهم من هذه الآية أنه على المؤمن ألا يترك الدنيا وأسبابها، فربما أخذها منك الكافر وتغلب عليك بها، أو يفتنك في دينك بسببها، فمن يعبد الله أولى بسره في الوجود، وأسرار الله في الوجود هي للمؤمنين، ولا ينبغي لهم أن يتركوا الأخذ بأسباب الدنيا للكافرين.
اجتهد أنت أيها المؤمن في أسباب الدنيا حتى تأمن الفتنة من الكافرين في دنياك .. ولا يخفي ما نحن فيه الآن من حاجتنا لغيرنا، مما أعطاهم الفرصة ليسيطروا على سياساتنا ومقدراتنا. لذلك يقول سبحانه:

..لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ...(30)
(سورة النحل)


أي: يأخذون حسناتهم، وتكون لهم اليد العليا بما اجتهدوا، وبما عملوا في دنياهم، وبذلك ينفع الإنسان نفسه وينفع غيره، وكلما اتسعت دائرة النفع منك للناس كانت يدك هي العليا، وكان ثوابك وخيرك موصولاً بخير الآخرة.

<لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة"> متفق عليه .اخرجه البخارى فى صحيحه ومسلم فى صحيحه ،كتاب المساقاة من حديث انس بن مالك رضى الله عنه.

ومن هذه الآية أيضاً يتضح لنا جانب آخر، هو ثمرة من ثمرات الإحسان في الدنيا وهي الأمن .. فمن عاش في الدنيا مستقيماً لم يقترف ما يعاقب عليه تجده آمناً مطمئناً، حتى إذا داهمه شر أو مكروه تجده آمنا لا يخاف، لأنه لم يرتكب شيئاً يدعو للخوف.
خذ مثلاً اللص تراه دائماً متوجساً خائفاً، تدور عينه يميناً وشمالاً، فإذا رأى شرطياً هلع وترقب راح يقول في نفسه: لعله يقصدني .. أما المستقيم فهو آمن مطمئن.
ومن ثمرات هذا الإحسان وهذه الاستقامة في الدنيا أن يعيش الإنسان على قدر إمكاناته ولا يرهق نفسه بما لا يقدر عليه، وقديماً قالوا لأحدهم: قد غلا اللحم، فقال: أرخصوه، قالوا: وكيف لنا ذلك؟ قال: ازهدوا فيه.
وقد نظم ذلك الشاعر فقال:
وإذا غـــلا شيء علي تركته فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
ولا تقل: النفس تواقة إليه راغبة فيه، فهي كما قال الشاعر:
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع
وفي حياتنا العملية، قد يعود الإنسان من عمله ولما ينضج الطعام، ولم تعد المائدة وهو جائع، فيأكل أي شيء موجود وتنتهي المشكلة، ويقوم هذا محل هذا، وتقنع النفس بما نالته. ولكي يعيش الإنسان على قدر إمكاناته لابد له أن يوازن بين دخله ونفقاته، فمن كان عنده عسر في دخله، أو ضاقت عليه منافذ الرزق لابد له من عسر في مصروفه، ولابد له أن يضيق على النفس شهواتها، وبذلك يعيش مستوراً ميسوراً، راضي النفس، قرير العين.
والبعض في مثل هذه المواقف يلجأ إلى الاستقراض للإنفاق على شهوات نفسه، وربما اقترض ما يتمتع به شهراً، ويعيش في ذلة دهراً؛ لذا من الحكمة إذن قبل أن تسأل الناس القرض سل نفسك أولاً، واطلب منها أن تصبر عليك، وأن تنظرك إلى ساعة اليسر، ولا تلجئك إلى مذلة السؤال .. وقبل أن تلوم من منعك لم نفسك التي تأبت عليك أولاً.
وما أبدع شاعرنا الذي صاغ هذه القيم في قوله:

إذا رمت أن تستقرض المال منفقاً فسل نفسك الإنفاق من كنز صبرها فإن فعلت كنت الغني، وإن أبت على شهوات النفس في زمن العسر عليك وإنظاراً إلى ساعة اليسر فكل منوع بعدها واسع العذر

ثم يقول الحق سبحانه:

...وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ ...(30)
(سورة النحل)


والخير في الآخرة من الله، والنعيم فيها على قدر المنعم تبارك وتعالى، دون تعب ولا كد ولا عمل. ومعلوم أن كلمة:

...قَالُوا خَيْرًا .... (30)
(سورة النحل)


التي فسرها الحق تبارك وتعالى بقوله:

...لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ...(30)
(سورة النحل)


تقابلها كلمة "شر"، هذا الشر هو ما جاء في قول الكافرين:

..مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
(سورة النحل)


فهؤلاء قالوا خيراً، وأولئك قالوا شراً. ولكن إذا قيل: ذلك خير من ذلك، فقد توفر الخير في الاثنين، إلا أن أحدهما زاد في الخيرية عن الآخر،

<وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:
"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير">
أخرجه مسلم فى صحيحه ،كتاب القدر من حديث ابى هريره رضى الله عنه

لذلك لما قال:

....لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ...(30)
(سورة النحل)


قال:
...وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ ...(30)
(سورة النحل)


أي: خير من حسنة الدنيا، فحسنة الدنيا خير، وأخير منها حسنة الآخرة. وينهي الحق سبحانه الآية بقوله:
...وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
(سورة النحل)


أي: دار الآخرة. ثم أراد الحق تبارك وتعالى أن يعطينا صورة موجزة عن دار المتقين كأنها برقية، فقال سبحانه