جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)

والجنات: تعني البساتين التي بها الأشجار والأزهار والثمار والخضرة، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر .. ليس هذا وفقط .. هذه الجنة العمومية التي يراها كل من يدخلها .. بل هناك لكل واحد قصر خاص به، بدليل قوله تعالى:

....وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
(سورة الصف)


إذن: هنا قدر مشترك للجميع:

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ....(31)
(سورة النحل)


ومعنى قوله تعالى:

جَنَّاتُ عَدْنٍ .... (31)
(سورة النحل)


أي: جنات إقامة دائمة؛ لأن فيها كل ما يحتاجه الإنسان، فلا حاجه له إلى غيرها .. هب أنك دخلت أعظم حدائق وبساتين العالم ـ هايد بارك مثلاً ـ فقصارى الأمر أن تتنزه به بعض الوقت، ثم يعتريك التعب ويصيبك الملل والإرهاق فتطلب الراحة من هذه النزهة .. أما الجنة فهي جنة عدن، تحب أن تقيم فيها إقامة دائمة.
ويصف الحق سبحانه هذه الجنات فيقول:

..... تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ....(31)
(سورة النحل)


وفي آية أخرى يقول سبحانه:

....ٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ ....(100)
(سورة التوبة)


ومعنى "تجري تحتها" أي: أنها تجري تحتها، وربما تأتي من مكان آخر .. وقد يقول هنا قائل: يمكن أن يمنع عنك جريان هذه الأنهار؛ لذلك جاءت الآية:

... تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ...(31)
(سورة النحل)


أي: ذاتية في الجنة لا يمنعها عنك مانع. ثم يقول تعالى:

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
(سورة النحل)


والمشيئة هنا ليست بإرادة الدنيا ومشيئتها، وإنما مشيئة بالمزاج الخصب الذي يتناسب مع الآخرة ونعيمها .. مثلاً: إذا دخلت على إنسان رقيق الحال فلك مشيئة على قدر حالته، وإذا دخلت على أحد العظماء أو الأثرياء كانت لك مشيئة أعلى .. وهكذا.
إذن: المشيئات النفسية تختلف باختلاف المشاء منه، فإذا كان المشاء منه هو الله الذي لا يعجزه شيء تكون مشيئتك مطلقة، فالمشيئة في الآية ليست كمشيئة الدنيا؛ لأن مشيئة الدنيا تتحدد ببيئة الدنيا .. أما مشيئة الآخرة فهي المشيئة المتفتحة المتصاعدة المرتقية كما تترقى المشيئات عند البشر في البشر حسب مراتبهم ومراكزهم.
ويروي أنه لما أسرت بنت أحد ملوك فارس عند رجل، وأرادوا شراءها منه وعرضوا عليه ما يريد، فقال: أريد فيها ألف دينار، فأعطوه الألف دينار وأخذوها منه .. فقال له أحدهم: إنها ابنة الملك، ولو كنت طلبت منه كذا وكذا لم يبخل عليك فقال: والله لو علمت أن وراء الألف عدداً لطلبته .. فقد طلب قصارى ما وصل إليه علمه.
لذلك لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرح لنا هذا النص القرآني:

.....ُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ..... (31)
(سورة النحل)


وكذلك قوله تعالى:

.... وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)
(سورة الزخرف)


قال: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
أخرج مسلم فى صحيحه واحمد فى مسنده وابو نعيم فى الحليه من حديث ابى هريره رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال "قال الله عزوجل :أعددت لعبادى الصالحين مالاعين رات ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر".

 إذن: تحديد الإطار للآية بقدر ما هم فيه عند ربهم.

...... كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
(سورة النحل)


أي: هكذا الجزاء الذي يستحقونه بما قدموا في الدنيا، وبما حرموا منه أنفسهم من متع حرام .. وقد جاء الآن وقت الجزاء، وهو جزاء أطول وأدوم؛ لذلك قال الحق تبارك وتعالى في آية أخرى:

كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
(سورة الحاقة)


ثم يقول الحق تبارك وتعالى

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)