فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)

أي: أنهم لما ظلموا أنفسهم أصابهم جزاء ذلك، وسمي ما يفعل بهم سيئة؛ لأن الحق تبارك وتعالى يسمي جزاء السيئة سيئة في قوله:

...كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ .... (33)
(سورة النحل)


ويقول تعالى:

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ.....(126)
(سورة النحل)


وهذه تسمى المشاكلة، أي: أن هذه من جنس هذه.
وقوله تعالى: (ما عملوا) العمل هو مزاولة أي جارحة من الإنسان لمهمتها، فكل جارحة لها مهمة. الرجل واليد والعين والأذن .. الخ. فاللسان مهمته أن يقول، وبقية الجوارح مهمتها أن تفعل. إذن: فاللسان وحده أخذ النصف، وباقي الجوارح أخذت النصف الآخر؛ ذلك لأن حصائد الألسنة عليها المعلول الأساسي.
فكلمة الشهادة: لا إله إلا الله لابد من النطق بها لنعرف أنه مؤمن، ثم يأتي دور الفعل ليساند هذا القول؛ لذا قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
(سورة الصف)


وبالقول تبلغ المناهج للآذان .. فكيف تعمل الجوارح دون منهج؟ ولذلك فقد جعل الحق تبارك وتعالى للأذن وضعاً خاصاً بين باقي الحواس، فهي أول جارحة في الإنسان تؤدي عملها، وهي الجارحة التي لا تنقضي مهمتها أبداً .. كل الجوارح لا تعمل مثلاً أثناء النوم إلا الأذن، وبها يتم الاستدعاء والاستيقاظ من النوم.
وإذا استقرأت آيات القرآن الكريم، ونظرت في آيات الخلق ترى الحق تبارك وتعالى يقول:

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78
(سورة النحل)


ثم هي آلة الشهادة يوم القيامة:

حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ .... (20)
(سورة فصلت)


ولذلك يقول الحق سبحانه:

فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
(سورة الكهف)


ومعنى: ضربنا على آذانهم، أي: عطلنا الأذن التي لا تعطل حتى يطمئن نومهم ويستطيعوا الاستقرار في كهفهم، فلو لم يجعل الله تعالى في تكوينهم الجارحي شيئاً معيناً لما استقر لهم نوم طوال 309 أعوام.
ويقول الحق تعالى:

..... وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
(سورة النحل)


بماذا استهزأ الكافرون؟ استهزأوا بالبعث والحساب وما ينتظرهم من العذاب، فقالوا كما حكى القرآن:

أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)
(سورة الصافات)


وقالوا:

... أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ .... (10)
(سورة السجدة)


ثم بلغ بهم الاستهزاء أن تعجلوا العذاب فقالوا:

.... فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
(سورة الأعراف)


وقالوا:

أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا..... (92)
(سورة الإسراء)


وهل يطلب أحد من عدوه أن ينزل به العذاب إلا إذا كان مستهزئاً؟
فقال لهم الحق تبارك وتعالى: إنكم لن تقدروا على هذا العذاب الذي تستهزئون به. فقال:

..... وَحَاقَ بِهِمْ .....(34)
(سورة النحل)


أي: أحاط ونزل بهم، فلا يستطيعون منه فراراً، ولا يجدون معه منفذاً للفكاك، كما في قوله تعالى:

وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)
(سورة البروج)


ثم يقول الحق سبحانه:

وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)