وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)

فالحق سبحانه يقول هنا:

وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ....(36)
(سورة النحل)


وفي آية أخرى يقول سبحانه:
....مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ....(84)
(سورة النحل)


فهذه لها معنى، وهذه لها معنى .. فقوله:

....مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ....(84)
(سورة النحل)


أي: من أنفسهم، منهم خرج، وبينهم تربى ودرج، يعرفون خصاله وصدقه ومكانته في قومه. أما قوله تعالى:

.... فِي كُلِّ أُمَّةٍ ....(36)
(سورة النحل)


فـ"في هنا تفيد الظرفية. أي: في الأمة كلها، وهذه تفيد التغلغل في جميع الأمة .. فلا يصل البلاغ منه إلى جماعة دون أخرى، بل لابد من عموم البلاغ لجميع الأمة.
وكذلك يقول تعالى مرة:

....أَرْسَلْنَا ....(26)
(سورة الحديد)


ومرة أخرى يقول:

...بَعَثْنَا .....(36)
(سورة النحل)


وهناك فرق بين المعنيين فـ(أرسلنا) تفيد الإرسال، وهو: أن يتوسط مرسل إلى مرسل إليه. أما (بعثنا) فتفيد وجود شيء سابق اندثر، ونريد بعثه من جديد.
ولتوضيح هذه القضية نرجح إلى قصة آدم ـ عليه السلام ـ حيث علمه الله الأسماء كلها، ثم أهبطه من الجنة إلى الأرض. وقال:

....فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
(سورة البقرة)


وقال في آية أخرى:

..... فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
(سورة طه)


إذن: هذا منهج من الله تعالى لآدم ـ عليه السلام ـ والمفروض أن يبلغ آدم هذا المنهج لأبنائه، والمفروض في أبنائه أن يبلغوا هذا المنهج لأبنائهم، وهكذا، إلا أن الغفلة قد تستحوذ على المبلغ للمنهج، أو عدم رعاية المبلغ للمنهج فتنطمس المناهج، ومن هنا يبعثها الله من جديد، فمسألة الرسالات لا تأتي هكذا فجأة فجماعة من الجماعات، بل هي موجودة منذ أول الخلق.
فالرسالات إذن بعث لمنهج إلهي، كان يجب أن يظل على ذكر من الناس، يتناقله الأبناء عن الآباء، إلا أن الغفلة قد تصيب المبلغ فلا يبلغ، وقد تصيب المبلغ فلا يلتزم بالبلاغ؛ لذلك يجدد الله الرسل.
وقد وردت آيات كثيرة في هذا المعنى، مثل قوله تعالى:

..... وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
(سورة فاطر)


وقوله:

ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
(سورة الأنعام)

وقوله:

..... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
(سورة الإسراء)


لذلك نرى غير المؤمنين بمنهج السماء يضعون لأنفسهم القوانين التي تنظم حياتهم، أليس لديهم قانون يحدد الجرائم ويعاقب عليها؟ فلا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص، ولا نص إلا بإبلاغ.
ومن هنا تأتي أهمية وضع القوانين ونشرها في الصحف والجرائد العامة ليعلمها الجميع، فلا يصح أن نعاقب إنساناً على جريمة هو لا يعلم أنها جريمة، فلابد من إبلاغه بها أولاً، ليعلم أن هذا العمل عقوبته كذا وكذا، ومن هنا تقام عليه الحجة.
وهنا أيضاً نلاحظ أنه قد يتعاصر الرسولان، ألم يكن إبراهيم ولوط متعاصرين؟ ألم يكن شعيب وموسى متعاصرين؟ فما علة ذلك؟
نقول: لأن العالم كان قديماً على هيئة الانعزال، فكل جماعة منعزلة في مكانها عن الأخرى لعدم وجود وسائل للمواصلات، فكانت كل جماعة في أرض لا تدري بالأخرى، ولا تعلم عنها شيئاً.
ومن هنا كان لكل جماعة بيئتها الخاصة بما فيها من عادات وتقاليد ومنكرات تناسبها، فهؤلاء يعبدون الأصنام، وهؤلاء يطففون الكيل والميزان، وهؤلاء يأتون الذكران دون النساء.
إذن: لكل بيئة جريمة تناسبها، ولابد أن نرسل الرسل لمعالجة هذه الجرائم، كل في بلد على حدة.
لكن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت على موعد مع التقاءات الأمكنة مع وجود وسائل المواصلات، لدرجة أن المعصية تحدث مثلاً في أمريكا فنعلم بها في نفس اليوم .. إذن: أصبحت الأجواء والبيئات واحدة، ومن هنا كان منطقياً أن يرسل صلى الله عليه وسلم للناس كافة، وللأزمنة كافة.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الشمولية بقوله:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ....(28)
(سورة سبأ)


أي: للجميع لم يترك أحداً، كما يقول الخياط: كففت القماش أي: جمعت بعضه على بعض، حتى لا يذهب منه شيء. ثم يقول الحق سبحانه:

.... أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ..(36)
(سورة النحل)


هذه هي مهمة الرسل:

...أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ ....(36)
(سورة النحل)


والعبادة معناها التزام بأمر فيفعل، وينهي عن أمر فلا يفعل؛ لذلك إذا جاء من يدعي الألوهية وليس معه منهج نقول له: كيف نعبدك؟ وما المنهج الذي جئت به؟ بماذا تأمرنا؟ عن أي شيءٍ تنهانا؟
فهنا أمر بالعبادة ونهي عن الطاغوت، وهذا يسمونه تحلية وتخلية: التحلية في أن تعبد الله، والتخلية في أن تبتعد عن الشيطان.
وعلى هذين العنصرين تبنى قضية الإيمان حيث نفى في: "أشهد أن لا إله" .. وإثبات في "إلا الله"، وكأن الناطق بالشهادة ينفي التعدد، ويثبت الواحدانية لله تعالى، وبهذا تكون قد خليت نفسك عن الشرك، وحليت نفسك بالوحدانية.
ولذلك سيكون الجزاء عليها في الآخرة من جنس هذه التحلية والتخلية؛ ولذلك نجد في قول الحق تبارك وتعالى:

...ِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ ... (185)
(سورة آل عمران)


أي: خلي عن العذاب.

... وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ ...(185)
(سورة آل عمران)


أي: حلي بالنعيم. وقوله:

....وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ...(36)
(سورة النحل)


أي: ابتعدوا عن الطاغوت .. فيكون المقابل لها: تقربوا إلى الله و(الطاغوت) فيها مبالغة تدل على من وصل الذروة في الطغيان وزاد فيه .. وفرق بين الحدث المجرد مثل طغي، وبين المبالغة فيه مثل (طاغوت)، وهو الذي يزيده الخضوع لباطله طغياناً على باطل أعلى.
ومثال ذلك: شاب تمرد على مجتمعه، وأخذ يسرع الشيء التافه القليل، فوجد الناس يتقربون إليه ويداهنونه اتقاء شره، فإذا به يترقى في باطله فيشتري لنفسه سلاحاً يعتدي به على الأرواح، ويسرق الغالي من الأموال، ويصل إلى الذروة في الظلم والاعتداء، ولو أخذ الناس على يده منذ أول حادثة لما وصل إلى هذه الحال.
ومن هنا وجدنا الديات تتحملها العاقلة وتقوم بها عن الفاعل الجاني، ذلك لما وقع عليها من مسئولية ترك هذا الجاني، وعلى الأخر على يده وكفه عن الأذى.

ونلاحظ في هذا اللفظ (الطاغوت) أنه لما جمع كل مبالغة في الفعل نجده يتأبى على المطاوعة، وكأنه طاغوت في لفظه ومعناه، فنراه يدخل على المفرد والمثنى والجمع، وعلى المذكر والمؤنث، فنقول: رجل طاغوت، وامرأة طاغوت، ورجلان طاغوت، وامرأتان طاغوت، ورجال طاغوت، ونساء طاغوت، وكأنه طغى بلفظه على جميع الصيغ.
إذن: الطاغوت هو الذي إذا ما خضع الناس لظلمه ازداد ظلماً. ومنه قوله تعالى:

فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ .... (54)
(سورة الزخرف)


فقد وصل به الحال إلى أن ادعى الألوهية، وقال:

....مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ..(38)
(سورة القصص)


ويحكى في قصص المتنبئين أن أحد الخلفاء جاءه خبر مدع للنبوة، فأمرهم ألا يهتموا بشأنه، وأن يتركوه، ولا يعطوا لأمره بالاً لعله ينتهي، ثم بعد فترة ظهر آخر يدعي النبوة، فجاءوا بالأول ليرى رأيه في النبي الجديد: ما رأيك في هذا الذي يدعي النبوة؟! أيكم النبي؟ فقال: إنه كذاب فإني لم أرسل أحداً!! ظن أنهم صدقوه في ادعائه النبوة، فتجاوز هذا إلى ادعاء الألوهية، وهكذا الطاغوت.
وقد وردت هذه الكلمة (الطاغوت) في القرآن ثماني مرات، منها ستة تصلح للتذكير والتأنيث، ومرة وردت للمؤنث في قوله تعالى:

وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا .... (17)
(سورة الزمر)


ومرة وردت للمذكر في قوله تعالى:

..... يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ .... (60)
(سورة النساء)


وفي اللغة كلمات يستوي فيها المذكر والمؤنث، مثل قوله الحق تبارك وتعالى:

....وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ....(146)
(سورة الأعراف)


وقوله:

قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي .....(108)
(سورة يوسف)


فكلمة "سبيل" جاءت مرة للمذكر، ومرة للمؤنث.
ثم يقول تعالى:

....َ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ .....(36)
(سورة النحل)


وقد أخذت بعضهم هذه الآية على أنها حجة يقول من خلالها: إن الهداية بيد الله، وليس لنا دخل في أننا غير مهتدين .. إلى آخر هذه المقولات. نقول: تعالوا نقرأ القرآن .. يقول تعالى:

وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ......(17)
(سورة فصلت)


ولو كانت الهداية بالمعنى الذي تقصدون لما استحبوا العمى وفضلوه، لكن "هديناهم" هنا بمعنى: دللناهم وأرشدناهم فقط، ولهم حق الاختيار، وهم صالحون لهذه ولهذه، والدلالة تأتي للمؤمن وللكافر، دل الله الجميع، فالذي أقبل على الله بإيمان به زاده هدى وآتاه تقواه، كما قال تعالى:

وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
(سورة محمد)


ومن هذا ما يراه البعض تناقضاً بين قوله تعالى:

إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ....(56)
(سورة القصص)


وقوله:

..... وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
(سورة الشورى)


حيث نفى الحق سبحانه عن الرسول صلى الله عليه وسلم الهداية في الأولى، وأثبتها له في الثانية. نلاحظ أن الحدث هنا واحد وهو الهداية، والمتحدث عنه واحد هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف يثبت حدث واحد لمحدثٍ واحد مرة، وينفيه عنه مرة؟!
لابد أن تكون الجهة منفكة .. في:

إِنَّكَ لَا تَهْدِي .... (56)
(سورة القصص)

أي: لا تستطيع أن تدخل الإيمان في قلب من تحب، ولكن تدل وترشد فقط، أما هداية الإيمان فبيد الله تعالى يهدي إليه من عنده استعداد للإيمان، ويصرف عنها من أعرض عنه ورفضه. وكأن الله تعالى في خدمة عبيده، من أحب شيئاً أعطاه إياه ويسره له، وبذلك هدى المؤمن للإيمان، وختم على قلب الكافر بالكفر.
إذن: تأتي الهداية بمعنيين: بمعنى الدلالة والإرشاد كما في الآية السابقة، وبمعنى المعونة وشرح الصدر للإيمان كما في قوله تعالى:

... وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ...(56)
(سورة القصص)


وقوله:

...زَادَهُمْ هُدًى ...(17)
(سورة محمد)


فقوله تعالى:

....َ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ....(36)
(سورة النحل)


أي: هداية إيمان ومعونةٍ بأن مكن المنهج في نفسه، ويسره له، وشرح به صدره.

.... وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ....(36)
(سورة النحل)


حقت: أي أصبحت حقاً له، ووجبت له بما قدم من أعمال، لا يستحق معها إلا الضلالة، فما حقت عليهم، وما وجبت لهم إلا بما عملوا. وهذه كقوله تعالى:

.... إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
(سورة الأنعام)


أيهما أسبق: عدم الهداية من الله لهم، أم الظلم منهم؟ واضح أن الظلم حدث منهم أولاً، فسماهم الله ظالمين، ثم كانت النتيجة أن حرموا الهداية. وتذكر هنا مثالاً كثيراً ما كررناه ليرسخ في الأذهان ـ ولله المثل الأعلى ـ هب أنك سائر في طريق تقصد بلداً ما، فصادفك مفترق لطرق متعددة، وعلامات لاتجاهات مختلفة، عندها لجأت لرجل المرور: من فضل أريد بلدة كذا، فقال لك: من هنا. فقلت: الحمد لله، لقد كدت أضل الطريق، وجزاك الله خيراً.
فلما وجدك استقبلت كلامه بالرضا والحب، وشكرت له صنيعه أراد أن يزيد لك العطاء. فقال لك: لكن في هذا الطريق عقبة صعبة، وسوف أصحبك حتى تمر منها بسلام.
هكذا كانت الأولى منه مجرد دلالة، أما الثانية فهي المعونة، فلما صدقته في الدلالة أعانك على المدلول .. هكذا أمر الرسل في الدلالة على الحق، وكيفية قبول الناس لها.
ولك أن تتصور الحال لو قلت لرجل المرور هذا: يبدو أنك لا تعرف الطريق .. فسيقول لك: إذن اتجه كما تحب وسر كما تريد. وكلمة "الضلالة" مبالغة من الضلال وكأنها ضلال كبير، ففيها تضخيم للفعل، ومنها قوله تعالى:

قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا .... (75)
(سورة مريم)


ثم يقيم لنا الحق ـ تبارك وتعالى ـ الدليل على بعثة الرسل في الأمم السابقة لنتأكد من إخباره تعالى، وأن الناس انقسموا أقساماً بين مكذب ومصدق، قال تعالى:

..... فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
(سورة النحل)


فهناك شواهد وأدلة تدل على أن هنا كان ناس، وكانت لهم حضارة اندكت واندثرت، كما قال تعالى في آية أخرى:

وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
(سورة الصافات)


فأمر الله تعالى بالسياحة في الأرض للنظر والاعتبار بالأمم السابقة، مثل: عاد وثمود وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم.
والحق تبارك وتعالى يقول هنا:

.... فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ....(36)
(سورة النحل)


وهل نحن نسير في الأرض، أم على الأرض؟
نحن نسير على الأرض .. وكذلك كان فهمنا للآية الكريمة، لكن المتكلم بالقرآن هو ربنا تبارك وتعالى، وعطاؤه سبحانه سيظل إلى أن تقوم الساعة، ومع الزمن تتكشف لنا الحقائق ويثبت العلم صدق القرآن وإعجازه.
فمنذ أعوام كنا نظن أن الأرض هي هذه اليابسة التي نعيش عليها، ثم أثبت لنا العلم أن الهواء المحيط بالأرض (الغلاف الجوي) هو إكسير الحياة على الأرض، وبدون لا تقوم عليها حياة، فالغلاف الجوي جزء من الأرض.
وبذلك نحن نسير في الأرض، كما نطق بذلك الحق ـ تبارك وتعالى ـ في كتابه العزيز. ونقف أمام ملحظ آخر في هذه الآية:

.... فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا ....(36)
(سورة آل عمران)

وفي آية أخرى يقول:

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا ....(11)
(سورة الأنعام)


ليس هذا مجرد تفنن في العبارة، بل لكل منهما مدلول خاص، فالعطف بالفاء يفيد الترتيب مع التعقيب.
أي: يأتي النظر بعد السير مباشرة .. أما في العطف بثم فإنها تفيد الترتيب مع التراخي. أي: مرور وقت بين الحدثين، وذلك كقوله تعالى:

ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)
(سورة عبس)


وقول الحق سبحانه:

....ِ فَانْظُرُوا .... (36)
(سورة النحل)


فكأن الغرض من السير الاعتبار والاتعاظ، ولابد ـ إذن ـ من وجود بقايا وأطلال تدل على هؤلاء السابقين المكذبين، أصحاب الحضارات التي أصبحت أثراً بعد عينٍ.
وهانحن الآن نفخر بما لدينا من أبنية حجرية مثل الأهرامات مثلاً، حيث يفد إليها السياح من شتى دول العالم المتقدم؛ ليروا ما عليها هذه الحضارة القديمة من تطور وتقدم يعجزهم ويحيرهم، ولم يستطيعوا فك طلاسمه حتى الآن.
ومع ذلك لم يترك الفراعنة ما يدل على كيفية بناء الأهرامات أو ما يدل على كيفية تحنيط الموتى؛ مما يدل على أن هؤلاء القوم أخذوا أخذة قوية اندثرت معها هذه المراجع وهذه المعلومات، كما قال تعالى:

.... هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
(سورة مريم)


وقد ذكر لنا القرآن من قصص هؤلاء السابقين الكثير كما في قوله تعالى:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
(سورة الفجر)


وقال:

وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)
(سورة الفجر)


هذا ما حدث للمكذبين في الماضي، وإياكم أن تظنوا أن الذي يأتي بعد ذلك بمنجى عن هذا المصير .. كلا:

إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
(سورة الفجر)


ثم يقول الحق سبحانه:

إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)