وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)

وقد جاء النهي في الآية نتيجة خروج الإنسان عن مراد ربه سبحانه، فالعجيب أن البشر والجن أيضاً ـ يعني الثقلين ـ هم المختارون في الكون كله، اختيار في أشياء وقهر في أشياء أخرى .. ومع ذلك لم يشذ من خلق الله غيرهما.
فالسماوات والأرض والجبال كان لها اختيار، وقد اختارت التسخير، وانتهت المسألة في بداية الأمر، ومع ذلك فهي مسخرة وتؤدي مهمتها لخدمة الإنسان، فالشمس لم تعترض يوماً ولم ترفض .. فهي تشرق على المؤمن كما تشرق على الكافر .. وكذلك الهواء والأرض والدابة الحلوب، وكل ما في كون الله مسخر للجميع .. إذن: كل هذه الأشياء لها مهمة، وتؤدي مهمتها على أكمل وجه.
ولذلك يقول تعالى في حق هذه الأشياء:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ .....(18)
(سورة الحج)


... وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ....(18)
(سورة الحج)


ولم يقل: والناس. ثم قال:

...... وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ......(18)
(سورة الحج)


هذا هو الحال في الإنسان المكرم الذي اختاره الله وترك له الاختيار .. إنما كل الأجناس مؤديه واجبها؛ لأنها أخذت حظها من الاختيار الأول، فاختارت أن تكون مسخرة، وأن تكون مقهورة.
فالإنسان .. واحد يقول: لا إله في الوجود .. العالم خلق هكذا بطبيعته، وآخر يقول: بل هناك آلهة متعددة؛ لأن العالم به مصالح كثيرة وأشياء لا ينهض بها إله واحد .. يعني: إله للسماء، وإله للأرض، وإله للشمس .. الخ.
إذن: هذا رأي في العالم أشياء كثيرة بحيث لا ينهض بها في نظره إله واحد، ونقول له: أنت أخذت قدرة الإله من قدرة الفردية فيك .. لا .. خذها من قدرة من:

.... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ...(11)
(سورة الشورى)


لأن القدرة الإلهية لا تعالج الأشياء كما تفعل أنت، وتحتاج إلى مجهود وعمل .. بل في حقه تعالى يتم هذا كله بكلمة كن .. كن كذا وانتهت المسألة.
ونعجب من تناقض هؤلاء، واحد يقول: الكون خلق هكذا لحاله دون إله. والآخر يقول: بل له آلهة متعددة .. نقول لهم: أنتم متناقضون، فتعالوا إلى دين الله، وإلى الوسطية التي تقول بإله واحد، لا تنفي الألوهية ولا تثبت التعددية.
فإن كنت تظن أن دولاب الكون يقتضي أجهزة كثيرة لإدارته، فاعلم أن الله تعالى لا يباشر تدبير أمر الكون بعلاج .. يفعل هذه ويفعل هذه، كما يزاول البشر أعمالهم، بل يفعلها بـ"كن"؛ ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي:
"يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته، فأعطيت كل سائل منكم ما سأل ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه، ذلك بأني جواد ماجد، افعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري بشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون"
أخرجه الترمذى فى سننه واحمد فى مسنده من حديث ابى ذر رضى الله عنه .قال الترمذى :حديث حسن .فى اسناده شهر بن حوشب .ضعفه بعضهم وقد حسن البخارى حديثه وقوى امره.
فيا من تشفق على الإله الواحد أن يتعب من إدارته للكون بشتى نواحيه، ارتفع بمستوى الألوهية عن أمثال البشر؛ لأن الله تعالى لا يباشر سلطانه علاجاً في الكون، وإنما يباشره بكلمة "كن". إذن: إله واحد يكفي، ومادمنا سلمنا بإله واحد، فإياك أن تقول بتعدد الآلهة .. وإذا كان الحق تبارك وتعالى نفى إلهين اثنين، فنفى ما هو أكثر من ذلك أولى .. واثنان أقل صور التعدد.
ومعنى (إلهين) أي: معبودين، فيكون لهما أوامر ونواه، والأوامر والنواهي تحتاج إلى طاعة، والكون يحتاج إلى تدبير، فأي الإلهين يقوم بتدبير أمور الكون؟ أم أنه يحتاج إلى مساعد؟ إن كان يحتاج إلى مساعد فهذا نقص فيه، ولا يصلح أن يكون إلهاً.
وكذلك إن تخصص كل منهما في عمل ما، هذا لكذا وهذا لكذا، فقد أصبح أحدهما عاجزاً فيما يقوم به الآخر .. وأي ناحية إذن من نواحي الحياة تكون هي المسيطرة؟ ومعلوم أن نواحي الحياة مشتركة ومتشابكة.
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ .... (91)
(سورة المؤمنون)


وقال:

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ....(22)
(سورة الأنبياء)


فكيف الحال إذا أراد الأول شيئاً، وأراد الآخر ألا يكون هذا الشيء؟ فإن كان الشيء كان عجزاً في الثاني، وإن لم يكن كان عجزاً في الأول .. إذن: فقوة أحدهما عجز في الآخر. ونلحظ في قوله تعالى:

وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ...... (51)
(سورة النحل)


عظة بليغة، كأنه سبحانه حينما دعانا إلى توحيده يقول لنا: أريحوا أنفسكم بالتوحيد، وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه الراحة في قوله:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
(سورة الزمر)

يعني رجل خلص لسيد واحد، ورجل أسياده كثيرون، وهم شركاء مختلفون، فإن أرضى هذا أغضب ذاك، وإن احتاجه أحدهما تنازعه الآخر. فهو دائماً متعب مثقل، أما المملوك لسيد واحد فلا يخفي ما فيه من راحة.
ففي أمره سبحانه بتوحيده راحة لنا، وكأنه سبحانه يقول: لكم وجهة واحدة تكفيكم كل الجهات، وتضمن لكم أن الرضا واحد، وأن البغض واحد. إذن: فطلبه سبحانه راحة لنا؛ لذلك قبل أن يطلبها منا شهد بها لذاته تعالى، فقال:

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ...(18)
(سورة آل عمران)


فلو قال معترض: كيف يشهد لذاته؟ نقول: نعم، يشهد لذاته سبحانه؛ لأنه لا أحد غيره .. لا أحد معه، فشهادة الذات للذات هنا شيء طبيعي .. وكأنه سبحانه يقول: لا أحد غيري، وإن كان هناك إله غيري فليرني نفسه، وليفصح عن وجوده.
أنا الله خلقت الكون وأخذته وفعلت كذا وكذا، فإما أن أكون صادقاً فيما قلت وتنتهي المسألة، وإما أن أكون غير صادق، وهناك إله آخر هو الذي خلق .. فأين هو؟ لماذا لا يعارضني؟ وهذا لم يحدث ولم ينازع الله في خلقه أحد، وحين تأتي الدعوى بلا معاند ولا معارض تسلم لصاحبها.
فإن قال قائل: لعل الآلهة الأخرى لم تدر بأن أحداً قد أخذ منهم الألوهية، فإن كان الأمر كذلك فهم لا يصلحون للألوهية لعدم درايتهم، وإن دروا ولم يعارضوا فهم جبناء لا يستحقون هذه المكانة.
وبشهادته سبحانه لذاته بأنه لا إله إلا هو أقبل على خلق الخلق؛ لأنه مادام يعرف أنه لا إله غيره، فإذا قال: "كن" فهو واثق أنه سيكون.
ولذلك ساعة يحكم الله حكماً غيبياً يقول: أنا حكمت هذا الحكم مع أنكم مختارون في أن تفعلوا أو لا تفعلوا، ولكني حكمت بأنكم لا تفعلون، ومادمت حكمت بأنكم لا تفعلون ولكم قدرة أن تفعلوا، ولكن ما فعلتم، فهذا دليل على أنه لا إله غيري يعينكم على أن تفعلوا.
ثم شهدت الملائكة على شهادة الذات، وشهد أولو العلم شهادة الاستدلال، كما قال تعالى:

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ ....(18)
(سورة آل عمران)


لنا هنا وقفة مع قوله تعالى:

.... إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ .....(51)
(سورة النحل)


فعندنا العدد، وعندنا المعدود، فإذا قلنا مثلاً: قابلت ثلاثة رجال، فكلمة "ثلاثة" دلت على العدد، وكلمة "رجال" دلت على جنس المعدود، وهكذا في جميع الأعداد ما عدا المفرد والمثنى، فلفظ كل منهما يدل على العدد والمعدود معاً.
كما لو قلت: إله. فقد دلت على الوحدة، ودلت على الجنس، وكذلك "إلهين" دلت على المثنى وعلى جنس المعدود.
ولذلك كان يكفي في الآية الكريمة أن يقول تعالى: لا تتخذوا إلهين؛ لأنها دلت على العدد وعلى المعدود معاً، ولكن الحق تبارك وتعالى أراد هذا تأكيداً للأمر العقدي لأهميته.
ومن أساليب العرب إذا أحبوا تأكيد الكلام أن يأتوا بعده بالمراد فيقولون: فلان قسيم وسيم، وفلان حسن بسن، وفلان شيطان ليطان، يريدون تأكيد الصفة .. وكذلك في قوله: (إلهين) فقط تثبت الألوهية، ولتأكيد هذه القضية العقدية لأنها أهل القضايا بالنسبة للإنسان، وهي قضية القمة، فقال تعالى:

.... إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ .... (51)
(سورة النحل)


وكذلك أيضاً في قوله:

..... إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ....(51)
(سورة النحل)


فجاء بقوله تعالى (واحد) لتأكيد وحدانية الله تعالى. وفي الآية ملحظ آخر يجب تأمله، وهو أن الكلام هنا في حالة الغيبة:

.... إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ .... (51)
(سورة النحل)


فكان القياس في اللغة هنا أن يقول: "فإياه فارهبون". ولكن وراء تحويل السياق من الغيبة إلى المجابهة للمتكلم قال:

..... فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
(سورة النحل)


وهذا وراءه حكمة، وملحظ بلاغي، فبعد أن أكد الألوهية بقوله تعالى:

....إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ .....(51)
(سورة النحل)


صح أن يجابههم بذاته؛ لأن المسألة مادامت مسألة رهبة فالرهبة من المتكلم خير من الرهبة من الغائب .. وكأن السياق يقول هاهو سبحانه أمامك، وهذا أدعى للرهبة.
وكذلك في فاتحة الكتاب نقرأ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
(سورة الفاتحة)


ولم يقل: إياه نعبد، متابعة للغيبة، بل تحول إلى ضمير الخطاب فقال:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
(سورة الفاتحة)


ذلك لأن العبد بعد أن استحضر صفة الجلال والعظمة أصبح أهلاً للمواجهة والخطاب المباشر مع الله عز وجل. فقوله:

..... فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
(سورة النحل)


بعد ما استحضر العبد عظمة ربه، وأقر له بالوحدانية وعلم أنه إله واحد، وليس إلهين. واحد يقول: نعذبه. والآخر يقول: لا.
ليس الأمر كذلك، بل إله واحد بيده أن يعذب، وبيده أن يعفو، فناسب السياق هنا أن يواجههم فيقول:

.... فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
(سورة النحل)


ثم يقول تعالى:

وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)