وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)

فالكتاب هو القرآن الكريم. وقول الحق سبحانه:

.... لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ......(64)
(سورة النحل)


دليل على أن أتباع الرسل السابقين نشأ بينهم خلاف، فأي خلاف هذا طالما أنهم تابعون لنبي واحد؟ ما سببه؟
قالوا: سبب هذا الخلاف ما يسمونه بالسلطة الزمنية .. ولتوضيح معنى السلطة الزمنية نضرب مثلاً بواحد كان شيخاً لطريقة مثلاً، بواحد كان شيخاً لطريقة مثلاً، فلما مات تنازع الخلافة أبناؤه من بعده .. كل يريدها له، وأخذ يجمع حوله مجموعة من أتباع أبيه .. فلو كانت الخلافة هذه واضحة في أذهانهم ما حدث هذا الخلاف.
وكذلك السلطة الزمنية حدثت في أتباع الرسل الذين أخذوا يكتبون الصكوك، ويذكرون ما يحبون وما يرونه صواباً من وجهة نظرهم، كل هؤلاء كان لهم نفوذ بما نسميه السلطة الزمنية.
فكيف ـ إذن ـ يتركون محمداً صلى الله عليه وسلم يأخذ منهم هذه السلطة، ويضيع عليهم ما هم فيه من سيادة، فقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين لهم. أي: يردهم إلى جادة الحق، وإلى الطريق المستقيم.
وقوله تعالى:

.... وَهُدًى وَرَحْمَةً .... (64)
(سورة النحل)


الهدى: معناه بيان الطريق الواضح للغاية النافعة، والطريق لا يكون واضحاً إلا إذا خلا من الصعاب والعقبات، وخلا أيضاً من المخاوف، فهو طريق واضح مأمون سهل، وأيضاً يكون قصيراً يوصلك إلى غايتك من أقصر الطرق.
وضد الهدى: الضلال. وهو أن يضلك، فإن أردت طريقاً وجهك إلى غيره، ودلك على سواه، أو دلك على طريق به مخاوف وعقبات. أما الرحمة، فقد وصف الحق تبارك وتعالى القرآن بأنه رحمة فقال:

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ... (82)
(سورة الإسراء)


فكيف يكون القرآن شفاءً؟ وكيف يكون رحمة؟
الشفاء: إذا أصابنا داء ربنا سبحانه وتعالى يقول: طيبوا داءكم ودووا أمراضكم بكذا وكذا، وردوا الحكم إلى الله .. هذا شفاء.
أما الرحمة: فهي أن يمنع أن يأتي الداء مرة أخرى، فتكون وقاية تقتلع الداء من أصله فلا يعود.
ومثل هذا يحدث في عالم الطب، فقد تذهب إلى طبيب ليعالجك من داء معين .. بثور في الجلد مثلاً، فلا يهتم إلا بما يراه ظاهراً، ويصف لك ما يداوي هذه البثور .. ثم بعد ذلك تعاودك مرة أخرى.
أما الطبيب الحاذق الماهر فلا ينظر إلى الظاهر فقط، بل يبحث عن سببه في الباطن، ويحاول أن يقتلع أسباب المرض من جذورها، فلا تعاودك مرة أخرى.
ولذلك، لو نظرنا إلى قصة أيوب ـ عليه السلام ـ وما ابتلاه الله به نرى فيها مثالاً رائعاً لعلاج الظاهر والباطن معاً، فقد ابتلاه ربه ببلاء ظهر أثره على جسمه واضحاً، ولما أذن له سبحانه بالشفاء قال له:

ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
(سورة ص)


(مغتسل): أي. يغسل ويزيل ما عندك من آثار هذا البلاء.
(وشراب): أي. شراب يشفيك من أسباب هذا البلاء فلا يعود.
وكذلك الحال في علاج المجتمع، فقد جاء القرآن الكريم وفي العالم فساد كبير، وداءات متعددة، لابد لها من منهج لشفاء هذه الداءات، ثم نعطيها مناعاتٍ تمنع عودة هذه الداءات مرة أخرى.
وقوله تعالى:

..... لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
(سورة النحل)


أي: أن هذا القرآن فيه هدى ورحمة لمن آمن بك وبرسالتك؛ لأن الطبيب الذي ضربناه مثلاً هنا لا يعالج كل مريض، بل يعالج من وثق به، وذهب إليه وعرض عليه نفسه ففحصه الطبيب وعرف علته.
وهكذا القرآن الكريم يسمعه المؤمن به، فيكون له هدىً ورحمة، ويترك في نفسه إشراقات نورانية تتسامى به وترتفع إلى أعلى الدرجات، في حين يسمعه آخر فلا يعي منه شيئاً، ويقول كما حكى القرآن الكريم:

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا ....(16)
(سورة محمد)


وقال:

...قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ .... (44)
(سورة فصلت)

......وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ..... (44)
(سورة فصلت)


إذن: فالقرآن واحد، ولكن الاستقبال مختلف. ثم يقول الحق سبحانه

 

وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)