ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

علة كون العسل فيه شفاء للناس أن يأكل النحل من كل الثمرات ذلك لأن تنوع الثمرات يجعل العسل غنياً بالعناصر النافعة، فإذا ما تناوله الإنسان ينصرف كل عنصر منه إلى شيء في الجسم، فيكون فيه الشفاء بإذن الله.
ولكن الآن ماذا حدث؟ نرى بعض الناس يقول: أكلت كثيراً من العسل، ولم أشعر له بفائدة .. نقول: لأننا تدخلنا في هذه العملية، وأفسدنا الطبيعة التي خلقها الله لنا .. فالأصل أن نترك النحل يأكل من كل الثمرات .. ولكن الحاصل أننا نضع له السكر مثلاً بدلاً من الزهر والنوار الطبيعي، ولذلك تغير طعم العسل، ولم تعد له ميزته التي ذكرها القرآن الكريم.
لذلك؛ فالمتتبع لأسعار عسل النحل يجد تفاوتاً واضحاً في سعره بين نوع وآخر، ذلك حسب جودته ومدى مطابقته للطبيعة التي حكاها القرآن الكريم. والحق سبحانه يقول:

.... فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا .... (69)
(سورة النحل)


أي: تنقلي حرة بين الأزهار هنا وهناك؛ ولذلك لا نستطيع أن نبني للنحل بيوتاً يقيم فيها، لابد له من التنقل من بستان لآخر، فإذا ما جفت الزراعات يتغذى النحل من عسله، ولكن الناس الآن يأخذون العسل كله لا يتركون له شيئاً، ويضعون مكانه السكر ليتغذى منه طوال هذه الفترة.
وقوله تعالى:

..... ذُلُلًا .... (69)
(سورة النحل)


أي: مذللة ممهدة طيعة، فتخرج النحل تسعى في هذه السبل، فلا يردها شيء، ولا يمنعها مانع، تطير هنا وهناك من زهرة لأخرى، وهل رأيت شجرة مثلاً ردت نحلة؟! .. لا .. قد ذلل الله لها حياتها ويسرها.
ومن حكمته تعالى ورحمته بنا أن ذلل لنا سبل الحياة .. وذلل لنا ما ننتفع به، ولولا تذليله هذه الأشياء ما انتفعنا بها .. فنرى الجمل الضخم يسوقه الصبي الصغير، ويتحكم فيه ينيخه، ويحمله الأثقال، ويسير به كما أراد، في حين أنه إذا ثار الجمل أو غضب لا يستطيع أحد التحكم فيه .. وما تحكم فيه الصبي الصغير بقوته ولكن بتذليل الله له.
أما الثعبان مثلاً فهو على صغر حجمه يمثل خطراً يفزع منه الجميع ويهابون الاقتراب منه، ذلك لأن الله سبحانه لم يذلله لنا، فأفزعنا على صغر حجمه .. كذلك لو تأمنا البرغوث مثلاً .. كم هو صغير حقير، ومع ذلك يقض مضاجعنا، ويحرمنا لذة النوم في هدوء .. فهل يستطيع أحد أن يذلل له البرغوث؟!
وفي ذلك حكمة بالغة وكأن الحق سبحانه يقول لنا: إذا ذللت لكم شيئاً، ولو كان اكبر المخلوقات كالجمل والفيل تستطيعون الانتفاع به، وإن لم أذلله لكم فلا قدرة لكم على تذليله مهما كان حقيراً صغيراً .. إذن: الأمور ليست بقدرتك، ولكن خذها كما خلقها الله لك.

...... يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا ....(69)
(سورة النحل)


ذلك أن النحلة تمتص الرحيق من هنا ومن هنا، ثم تتم في بطنها عملية طهي ربانية تجعل من هذا الرحيق شهداً مصفى؛ لأنه قد يظن أحدهم أنها تأخذ الرحيق، ثم تتقيؤه كما هو .. فلم يقل القرآن: من أفواهها، بل قال: من بطونها .. هذا المعمل الإلهي الذي يعطينا عسلاً فيه شفاء للناس.

..... شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ .....(69)
(سورة النحل)


مادام النحل يأكل من كل الثمرات، والثمرات لها عطاءات مختلفة باختلاف مادتها، واختلاف ألوانها، واختلاف طعومها وروائحها .. إذن: لابد أن يكون شراباً مختلفاً ألوانه.

.... فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ....(69)
(سورة النحل)


لذلك وجدنا كثيراً من الأطباء، جزاهم الله خيراً يهتمون بعسل النحل، ويجرون عليه كثيراً من التجارب لمعرفة قيمته الطبية، لكن يعوق هذه الجهود أنهم لا يجدون العسل الطبيعي كما خلقه الله.
ومع ذلك ومع تدخل الإنسان في غذاء النحل بقيت فيه فائدة، وبقيت فيه صفة الشفاء، وأهمها امتصاص المائية من الجسم، وأي ميكروب تريد أن تقضي عليه قم بامتصاص المائية منه يموت فوراً.
فإذا ما توفر لنا العسل الطبيعي الذي خلقه الله تجلت حكمة خالقه فيه بالشفاء، ولكنه إذا تدخل الإنسان في هذه العملية أفسدها .. فالكون كله الذي لا دخل للإنسان فيه يسير سيراً مستقيماً لا يتخلف، كالشمس والقمر والكواكب .. الخ إلا الإنسان فهو المخلوق الوحيد الذي يخرج عن منهج الله.
فالشيء الذي لك دخل فيه، إما أن تتدخل فيه بمنهج خالقه أو تتركه؛ لأنك إذا تدخلت فيه بمنهج خالقه يعطيك السلامة والخير وإن تدخلت فيه بمنهجك أنت أفسدته. والحق سبحانه وتعالى يقول:

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
(سورة البقرة)


إنهم لا يعرفون .. لا يفرقون بين الفساد والصلاح. وفي القرآن أمثلة للناس الذين يفسدون في الأرض ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، يقول تعالى:

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
(سورة الكهف)

فالذي اخترع السيارة وهذه الآلات التي تنفث سمومها وتلوث البيئة التي خلقها الله .. صحيح وفر لنا الوقت والمجهود في الحمل والتنقل، ولكن انظر إلى ما أصاب الناس من عطب بسبب هذه الآلات .. انظر إلى عوادم السيارات وآثارها على صحة الإنسان.
كان يجب على مخترع هذه الآلات أن يوازن بين ما تؤديه من منفعة وما تسببه من ضرر، وأضاف إلى الأضرار الصحية ما يحدث من تصادمات وحوادث مروعة تزهق بسببها الأرواح .. وبالله هل رأيت أن تصادم جملان في يوم من الأيام .. فلابد إذن أن نقيس المنافع والأضرار قبل أن نقدم على الشيء حتى لا نفسد الطبيعة التي خلقها الله لنا.
وقوله تعالى:

.... فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ....(69)
(سورة النحل)


الناس: جمع مختلف الداءات باختلاف الأفراد وتعاطيهم لأسباب الداءات، فكيف يكون هذا الشراب شفاء لجميع الداءات على اختلاف أنواعها؟ .. نقول: لأن هذا الشراب الذي أعده الله لنا بقدرته سبحانه جاء مختلفاً ألوانه .. من رحيق متعدد الأنواع والأشكال والطعوم والعناصر .. ليس مزيجاً واحداً يشربه كل الناس، بل جاء مختلفاً متنوعاً باختلاف الناس، وتنوع الداءات عندهم .. وكأن كل عنصر منه يداوي داءً من هذه الداءات.
وقوله تعالى:

..... إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
(سورة النحل)


التفكر: أن تفكر فيما أنت بصدده لتستنبط منه شيئاً لست بصدده، وبذلك تثري المعلومات؛ لأن المعلومات إذا لم تتلاقح، إذا لم يحدث فيها توالد تقف وتتجمد، ويصاب الإنسان بالجمود الطموحي، وإذا أصيب الإنسان بهذا الجمود توقف الارتقاء؛ لأن الارتقاءات التي نراها في الكون هي نتيجة التفكير وإعمال العقل.
لذلك فالحق سبحانه ينبهنا حينما نمر على ظاهرة من ظواهر الكون، ألا نمر عليها غافلين معرضين، بل نفكر فيها ونأخذها بعين الاعتبار .. يقول تعالى:

وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
(سورة يوسف)


ففي الآية حث على التفكر في ظواهر الكون، وفيها تحذير من الإعراض والغفلة عن آيات الله، فبالفكر نستنبط من الكون ما نستفيد به.
ولو أخذنا مثلاً الذي اخترع الآلة البخارية .. كيف توصل إلى هذا الاختراع الذي أفاد البشرية؟ نجد أنه توصل إليه حينما رأى القدر الذي يغلي على النار يرتفع غطاؤه مع بخار الماء المتصاعد أثناء الغليان .. فسأل نفسه: لماذا يرتفع الغطاء؟ واستعمل عقله وأعمل تفكيره حتى توصل إلى قوة البخار المتصاعد، واستطاع توظيف هذه القوة في تسيير ودفع العربات. وكذلك أرشميدس ـ وغيره كثيرون ـ توصلوا بالاعتبار والتفكر في ظواهر الكون، إلى قوانين في الطبيعة أدت إلى اختراعات نافعة نتمتع نحن بها الآن، فالذي اخترع العجلة، كم كانت مشقة الإنسان في حمل الأثقال؟ وما أقصى ما يمكن أن يحمله؟ فبعد أن اخترعوا العجلات واستخدمت في الحمل تمكن الإنسان من حمل وتحريك أضعاف أضعاف ما كان يحمله.
الذي اخترع خزانات المياه .. كم كانت المشقة في استخراج الماء من البئر؟ أو من النهر؟ فبعد عمل الخزانات وضخ المياه أصبحنا نجد الماء في المنازل بمجرد فتح الصنبور.
هذه كلها ثمرات العقل حينما يتدبر، وحينما يفكر في ظواهر الكون، ويستخدم المادة الخام التي خلقها الله وحثنا على التفكر فيها والاستنباط منها .. وكأن الحق سبحانه يقول لنا: لقد أعطيتكم ضروريات الحياة، فإن أردتم ترف الحياة وكمالياتها فاستخدموا نعمة العقل والتفكير والتدبر لتصلوا إلى هذه الكماليات.
وهنا الحق سبحانه يلفتنا لفتة أخرى .. وهي أنه سبحانه يجعل من المحسات ما يقرب لنا المعنويات إلى منهجه سبحانه؛ ولذلك ينقلنا هذه النقلة من المحسوس إلى المعنوي، فيقول تعالى

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)