وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)

والعبادة أن يطيع العابد معبوده، وهذه الطاعة تقتضي تنفيذ الأمر واجتناب النهي .. فهل العبادة تنفيذ الأمر واجتناب النهي فقط؟ نقول: لا بل كل حركة في الحياة تعين على عبادة فهي عبادة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولتوضيح هذه القضية نضرب هذا المثل:
إذا أردت أن تؤدي فرض الله في الصلاة مثلاً، فأنت تحتاج إلى قوة لتؤدي هذه الفريضة، ولن تجد هذه القوة إلا بالطعام والشراب، ولنأخذ أبسط ما يمكن تصوره من الطعام .. رغيف العيش .. فانظر كم يدي شاركت فيه منذ كان حبة قمح تلقى في الأرض إلى أن أصبح رغيفاً شهياً.
إن هؤلاء جمعياً الذين أداروا دولاب هذه العملية يؤدون حركة إيجابية في الحياة هي في حد ذاتها عبادة لأنها أعانتك على عبادة.
أيضاً إذا أردت أن تصلي، فواجب عليك أن تستر عورتك .. انظر إلى هذا القماش الذي لا تتم الصلاة إلا به .. كل من أسهم في زراعته وصناعته حتى وصل إليك .. جميعهم يؤدون عبادة بحركتهم في صناعة هذا القماش.
إذن: كل شيء يعينك على عبادة الله فهو عبادة، وكل حركة في الكون تؤدي إلى شيء من هذا فهي عبادة. والحق سبحانه وتعالى حينما استدعى المؤمنين لصلاة الجمعة، قال سبحانه:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ.... (9)
(سورة الجمعة)


لم يأخذهم من فراغ، بل من عمل، ولكن لماذا قال سبحانه: (وذروا البيع) .. لماذا البيع بالذات؟
قالوا: لأن البيع هو غاية كل حركات الحياة، فهو واسطة بين منتج ومستهلك .. ولم يقل القرآن: اتركوا المصانع أو الحقول، لأن هناك أشياء لا تأتي ثمرتها في ساعتها .. فمن يزرع ينتظر شهوراً ليحصد ما زرع، والصانع ينتظر إلى أن يبيع صناعته .. لكن البيع صفقة حاضرة، فهي محل الاهتمام .. وكذلك لم يقل: ذروا الشراء، قالوا: لأن البائع يحب أن يبيع، ولكن المشتري قد يشتري وهو كاره .. فأتى القرآن بأدق شيء يمكن أن يربطك بالزمن، وهو البيع.
فإذا ما انقضت الصلاة أمرنا بالعودة إلى العمل والسعي في مناكب الأرض:

فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ....(10)
(سورة الجمعة)


فقوله تعالى:

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.... (73)
(سورة النحل)


أراد الحق سبحانه أن يتكلم عن الجهة التي يؤثرونها على الله .. وهي الأصنام .. فالله سبحانه الذي خلقهم ورزقهم من الطيبات، وجعل لهم من أنفسهم أزواجاً، وجعل لهم بنين وحفدة .. كان يجب أن يعبدوه لنعمته وفضله .. فالذي لا يعبد الله لذاته سبحانه يعبده لنعمه وحاجته إليه .. فعندنا عبادة للذات لأنه سبحانه يستحق العبادة لذاته، وعبادة لصفات الذات في معطياتها، فمن لم يعبده لذاته عبده لنعمته.
وطالما أن العبادة تقتضي تنفيذ الأوامر واجتناب النواهي .. فكيف تكون العبادة إذن في حق هذه الأصنام التي اتخذوها؟! كيف تعبدونها وهي لم تأمركم بشيء ولم تنهكم عن شيء؟!. وهذا أول نقد لعبادة غير الله من شمس أو قمر أو صنم أو شجر.
وكذلك .. ماذا تعطي الأصنام ـ أو غيرها من معبوداتكم ـ لمن عبدها، وماذا أعدت لهم من ثواب؟! وبماذا تعاقب من كفر بها؟ .. إذن: فهو إله بلا منهج.
والتدين غريزة في النفس يلجأ إليها الإنسان في وقت ضعفه وحاجته .. والله سبحانه هو الذي يحب أن نلجأ إليه وندعو ونطلب منه قضاء الحاجات .. وله منهج يقتضي مطلوبات تدك السيادة والطغيان في النفوس ويقتضي تكليفات شاقة على النفس.
إذن: لجأ الكفار إلى عبادة الأصنام والأوثان لأنها آلهة بلا تكليف، ومعبودات بلا مطلوبات. ما أسهل أن يتمحك إنسان في إله ويقول: أنا أعبده دون أن يأمر بشيء أو ينهي عن شيء! ما أسهل أن يرضى في نفسه غريزة التدين بعبادة مثل هذا الإله.
لكن يجب ألا تنسوا أن هذا الإله الذي ليس له تكليف لن تستطيعوا أن تطلبوا منه شيئاً، أو تلجأوا إليه في شدة .. فهذا غير معقول فكما أنهم لا يطلبوا منكم شيئاً، كذلك لا يملكون لكم نفعاً ولا ضراً.
لذلك وجدنا الذين يدعون النبوة .. هؤلاء الكذابون ييسرون على الناس سبل العبادة، ويبيحون لهم ما حرمه الدين مثل اختلاط الرجال والنساء وغيره؛ ذلك لاستقطاب اكبر عدد ممكن من الأتباع.
فجاء مسيلمة الكذاب وأراد أن يسهل على الناس التكليف فقال بإسقاط الصلاة، وجاء الآخر فقال بإسقاط الزكاة .. وقد جذب هذا التسهيل كثيراً من المغفلين الذين يضيقون بالتكليف، ويميلون لدين سهل يناسب هممهم الدنية.
وهكذا وجدنا لهؤلاء الكذابين أنصاراً يؤيدونهم ويناصرونهم .. ولكن سرعان ما تتكشف الحقائق، ويقف هؤلاء المخدوعون على حقيقة أنبيائهم. وقوله تعالى:

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا .....(73)
(سورة النحل)

نلاحظ في هذه الآية نوعاً من الارتقاء في الاستدلال على بطلان عبادة الأصنام؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى قال عنهم في آية أخرى:

..... لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
(سورة النحل)


فنفى عنهم القدرة على الخلق، بل إنهم هم المخلوقون .. يذهب الواحد منهم فيعجبه حجر، فيأخذه ويعمل فيه معوله حتى يصوره على صورة ما، ثم يتخذه إلهاً يعبده من دون الله. فلما نفى عنهم القدرة على الخلق أراد هنا أن يترقى في الاستدلال، فنفى عنهم مجرد أن يملكوا، فقد يملك الواحد ما لا يخلقه، فتقرر الآية هنا أنهم لا يملكون .. مجرد الملك.
وقوله تعالى:

..... مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا .... (73)
(سورة النحل)


فالرزق من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات، ومن المصدرين يأتي رزق الله، وبذلك يضمن لنا الحق تبارك وتعالى مقومات الحياة وضرورياتها من ماء السماء ونبات الأرض. فإن أردتم ترف الحياة فاجتهدوا فيما أعطاكم الله من مقومات الحياة لتصلوا إلى هذا الترف. فالرزق الحقيقي المباشر ما أنزله الله لنا من مطر السماء فأنبت لنا نبات الأرض.
ونوضح ذلك فنقول: هب أن عندك جبلاً من ذهب، أو جبلاً من فضة، وقد عضك الجوع في يوم من الأيام .. هل تستطيع أن تأكل من الذهب أو الفضة؟
إنك الآن في حاجة لرغيف عيش، لا لجبل من ذهب أو فضة .. رغيف العيش الذي يحفظ لك حياتك في هذا الموقف افضل من هذا كله. وهذا هو الرزق المباشر الذي رزقه الله لعباده، أما المال فهو رزق غير مباشر، لا تستطيع أن تأكل منه أو تعيش عليه.
وكلمة (شيئاً) أي: أقل ما يقال له شيء، فالأصنام والأوثان لا تملك لهم رزقاً مهما قل؛ لأنه قد يقول قائل: لا يملكون رزقاً يكفيهم .. لا .. بل لا يملكون شيئاً. ثم يعطينا الحق سبحانه لمحة أخرى في قوله تعالى:

....وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
(سورة النحل)


أي: لا يملكون لهم رزقاً في الحاضر، ولن يملكوا في المستقبل، وهذا يقطع الأمل عندهم، فهم لا يملكون اليوم، ولن يملكوا غداً؛ ذلك لأن هناك أشياء ينقطع الحكم فيها وقتاً .. وأشياء معلقة يمكن أن تستأنف فيما بعد، فهذه الكلمة:

.... وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
(سورة النحل)


حكم قاطع لا استئناف له فيما بعد. ولذلك؛ نجد هؤلاء الذين يحبون أن يجدوا في القرآن مأخذاً يجادلون في قوله تعالى:

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
(سورة الكافرون)


فهؤلاء يرون في السورة تكراراً يتنافى وبلاغة القرآن الكريم .. نقول: ليس في السورة تكرار لو تأملتم .. ففي السورة قطع علاقات على سبيل التأبيد والاستمرار، فالحق سبحانه يقول:

لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
(سورة الكافرون)


في الحاضر، وفي المستقبل، وإلى يوم القيامة. فقوله:

لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
(سورة الكافرون)


وهذا قطع علاقات في الوقت الحاضر .. ولكن من يدرينا لعلنا نستأنف علاقات أخرى فيما بعد .. فجاء قوله تعالى:

وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
(سورة الكافرون)


لا للتكرار، ولكن لقطع الأمل في إعادة العلاقات في المستقبل، فالقضية ـ إذن ـ منتهية من الآن على سبيل القطع. كذلك المعنى في قوله تعالى:

....وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
(سورة النحل)


أي: لا يستطيعون الآن، ولا في المستقبل. ثم يقول الحق سبحانه

فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)