فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)

الأمثال: جمع مثل، وهو الند والنظير. وفي الآية نهي عن أن نشبه الله سبحانه بشيء آخر؛ لأن الحق تبارك وتعالى واحد في ذاته، واحد في صفاته، واحد في أفعاله .. إياك أن تقول عن ذات: إنها تشبه ذاته سبحانه، أو صفات تشبه صفاته سبحانه، فإن وجدت صفة لله تعالى يوجد مثلها في البشر فاعلم أنها على مقياس.

..... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .... (11)
(سورة الشورى)


فالحق سبحانه ينهانا أن نضرب له الأمثال، إنما هو سبحانه يضرب الأمثال؛ لأنه حكيم يضرب المثل في محله ليوضح القضية الغامضة بالقضية المشاهدة؛ ولذلك يقول تعالى:

...... وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ..... (60)
(سورة النحل)


أي: الصفة العليا في كل شيء، فإذا وجدت صفات مشتركة بينكم وبين الحق سبحانه فنزه الله عن الشبيه والنظير والند والمثيل وقل: (ليس كمثله شيء). فأنت موجود والله موجود، ولكن وجودك مسبوق بعدم ويلحقه العدم، ووجوده سبحانه لا يسبقه عدم ولا يلحقه العدم.
وقد ضرب الله لنا مثلاً لنفسه سبحانه ليوضح لنا تنويره سبحانه للكون، وليس مثلاً لنوره كما نظن .. بل هو مثل تنويره لا لنوره. يقول تعالى في سورة النور:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
(سورة النور)


نور السماوات والأرض؛ لأنه بالنور تكون الهداية حسية أو معنوية .. فالنور الحسي مثل نور الشمس والقمر وغيرهما من مصادر الضوء .. هذا النور الحسي هو الذي يبين لنا الأشياء لتسير في الكون على بصيرة وهدى .. فلو حاولت السير ليلاً دون ضوء يهديك فسوف تصطدم بالأشياء من حولك: إما أقوى منك يحطمك ويؤذيك، وإما تكون أنت أقوى منه فتحطمه أنت .. فالذي يهدي خطاك هو النور الحسي.
وقد يكون النور معنوياً، وهو نور القيم والأخلاق، وهذا النور يجعلك أيضاً تسير في الحياة على بصيرة وهدى، ويحميك من التخبط في مجاهل الأفكار والنظريات، هذا هو النور القيمي الذي أنزله الله لنا في كتابه الكريم، وقال عنه:

....قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
(سورة المائدة)


فهو نور لكن معنوي .. بالقيم والأخلاق والفضائل .. ولا تقل في هذا المثل: إنه مثل لنور الله .. بل مثل لسلطان تنويره للكون، ولو تأملنا بقية الآية لأدركنا ذلك.

......مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ....... (35)
(سورة النور)


البعض يقولون: المشكاة هي المصباح .. لا .. المشكاة هي الكوة أو الطاقة المسدودة في الجدار يعرفها أهل الريف في بناياتهم القديمة، وهي تجويف غير نافذ في الجدار يوضع فيه المصباح.

.......الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ......(35)
(سورة النور)


أي: ليس مصباحاً عادياً بل في زجاجة، وهي تحمي ضوء المصباحان يبعثره الهواء من كل ناحية، وفي نفس الوقت تسمح له بالقدر الكافي من الهواء لاستمرار الاشتعال، وبذلك يكون الضوء ثابتاً صافياً لا يصدر عنه دخان يعكر صفو الزجاجة.
وأهل الريف يعرفون شعلة الجاز التي ليس لها زجاجة، وما يصدر عنها من دخان أسود ضار .. إذن: المصباح هنا في غاية الصفاء والقوة؛ لأن الزجاجة أيضاً ليست زجاجة عادية، بل زجاجة كأنها كوكب دري، وكونها كالكوكب الدري يعني أنها تضيء بنفسها.

....... الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ...... (35)
(سورة النور)


هذا المصباح يوقد بزيت ليس عادياً، بل هو زيت من زيتونه .. شجرة زيتون معتدلة المناخ.

...... لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ ..... (35)
(سورة النور)


هذا الزيت وصل من الصفاء والنقاء أنه يضيء، ولو لم تمسسه نار؛ ولذلك أعطانا منتهى القوة:

...... يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ...... (35)
(سورة النور)


ولذلك قال تعالى في وصف هذا المصباح:

...... نُورٌ عَلَى نُورٍ .....(35)
(سورة النور)

وبعد أن وقفت على أوصاف هذا المصباح، وأنه يوضع في كوة صغيرة، بالله عليك هل يمكن وجود نقطة مظلمة في هذه الكوة؟
إذن: فهذا مثل ليس لنوره سبحانه .. فنوره لا يدرك، وإنما هو مثل لتنويره للكون، الذي هو كالكوة والطاقة في هذا المثل .. فمعنى قوله تعالى:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..... (35)
(سورة النور)


أي: منورهما، فكما أنه لا يعقل وجود نقطة مظلمة في هذه الكوة، فكذلك نوره سبحانه وتنويره للكون .. وهذا هو النور الحسي الذي أمد الله به الكون.
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن النور المعنوي الذي ينزل على عباد الله الصالحين تجلياتٍ نورانية، وفيوضاتٍ ربانية نتلقاها في بيوت الله:

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ .... (37)
(سورة النور)


وهكذا نجمع بين النور الحسي والنور المعنوي صلى الله عليه وسلم. ولذلك، فأبو تمام حينما أراد أن يمدح الخليفة شبهه بمشاهير العرب في الشجاعة والكرم والحلم والذكاء، فقال:
إقدام عمـر في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس
فاعترض على هذا التشبيه أحد حساد أبي تمام، وقال له: كيف تشبه الخليفة بأجلاف العرب؟ ففي جيشه ألف واحد كعمرو، ومن خزنته ألف واحد كحاتم .. ولكن يخرج أبو تمام من هذا المأزق، ويفلت من هذا الفخ الذي نصبه له حاسده، قال علي البديهة:
لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقـل لنوره مثلاً مـن المشـكاة والنـبراس
والحق سبحانه وتعالى وإن نهانا نحن أن نضرب له مثلاً لقلة علمنا، فهو سبحانه القادر على ضرب الأمثال حتى بأقل المخلوقات وأتفهها في نظرنا .. فيقول تعالى:

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.....(26)
(سورة البقرة)


فلا تستقل أمر هذه البعوضة، ولا تستحقر أن يجعلها الله مثلاً؛ لأنه سبحانه لا يستحي أن يضرب بها المثل؛ لأن في هذه البعوضة كل أجهزة تكوين الحياة التي فيك، وفي أضخم الحيوانات مثل الفيل والجمل؛ ولأن هذه البعوضة التي تستحقرها قد تكون أقوى منك، وقد تعجزك أنت على قوتك وحيلتك وجبروتك.
يقول تعالى:

.....ُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
(سورة الحج)


بالله عليك، هل تستطيع على قوتك وإمكاناتك أن تسترد من الذبابة ما أخذته من طعامك؟ هل تقدر على هذه العملية؟
إذن: حينما يضرب الله لك مثلاً يجب أن تحترم ضرب الله للمثل، وأن تبحث فيما وراء المثل من الحكمة .. وأنه سبحانه جاء بهذا المثل لهذا المخلوق الحقير في نظرك ليوضح لك قضية غامضة ينبهك إليها.
ولأهمية ضرب المثل في توضيح الغامض يلجأ إليه الشعراء ليقربوا المعنى من الأفهام، فقد يقف الشاعر أمام قضية معقدة لا يدركها إلا العقلاء، ويريد الشاعر الوصول بها إلى أفهام العامة .. مثل قضية الحاسد الذي يظهر بحسده مزايا محسوده ومكارمه، فقد يتهم البريء بتهمة ظلماً، فتكون سبباً في رفعته بين قومه.
أخذ الشاعر العربي هذا المعنى، وصاغه شعراً، وضرب له مثلاً توضيحياً، فقال:

وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت لولا اشتعال النار فيما جاورت أتاح لها لسان حسود ما كان يعرف طيب عرف العود
فانظر كيف وصل بالقضية المعنوية إلى قضية عامة يعرفها الرجل العادي، فقد يكون لديك فضيلة مكتومة مغمورة لا يعرفها أحد، حتى تتعرض لحاسد يتهمك ويشوه صورتك، فإذا بالحقيقة تتكشف للجميع ويظهر ما عندك من مواهب، وما لديك من فضائل .. وما أشبه ذلك بالعود طيب الرائحة الذي لا نشم رائحته إلا إذا حرقناه.
وقد كان سبب هذا المثل الشعري أن أحد أهل الخير كان يتردد من حين لآخر على أحد بيوت البلدة وبها عجوز مقعدة في حاجة إلى مساعدة، فكان يساعدها بما يستطيع، وكان بجوارها منزل إحدى الجميلات التي قد تكون مطمعاً .. فاستغل أحد الحساد هذه الجيرة، واتهم الرجل الصالح بأنه يذهب إلى هذه الحسناء .. وفعلاً تتبعه الناس، فإذا به يذهب لبيت العجوز المقعدة .. ومن هنا عرف الناس عنه فضيلة لم يكن يعرفها أحد.
وقد رأينا على مر التاريخ من اتهموا ظلماً، وقيل في حقهم ما يندي له الجبين .. ثم أنصفهم القضاء العادل، وأظهر أنهم أبطال يستحقون التكريم، ولولا ما تعرضوا له من اتهام ما عرفنا مزاياهم ومكارمهم.
وقوله تعالى:

..... إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
(سورة النحل)


وهذه علة النهي عن ضرب الأمثال لأننا لا نعلم، أما الحق سبحانه وتعالى فيضرب لنا الأمثال؛ لأنه سبحانه يعلم، ويأتي بالمثل في محله. وبعد أن هيأنا ربنا سبحانه لتلقي الأمثال، وأعد أذهاننا لاستقبال الأمثال منه سبحانه .. أتى بهذا المثل.
فيقول الحق سبحانه

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)